لبنان.. أعراف طائفية جديدة أو نظام مدني وطني؟
العميد د. أمين محمد حطيط
انشغلت الأروقة السياسية بكلام رئيس الجمهورية عن "سعي البعض إلى أعراف جديدة في تشكيل الحكومة” خلافاً للدستور، ولا زال البعض يبحث عمن تعنيه العبارة تلك ويكاد يتجه معظم المهتمين الى القول بأن الرئيس قصد في ملاحظاته تلك الثنائي الشيعي الذي "يتهم” بأنه أوجد عقدة اللقاء التشاوري من اجل الحصول على مقعد وزاري إضافي لـ فريق 8 آذار بعد أن شعر بالغبن الشديد من التوزيع الذي أعطى للرئيس وتياره 11 مقعداً ولجماعات 14 آذار 12 ولـ 8 آذار 7 وزراء، رغم أنّ للفريق الأخير في المجلس النيابي 45 نائباً، وهو يتقدّم بذلك من حيث العدد على الجميع ممّن ذكرنا فحصر تمثيله بالشيعة ونائب مسيحي واستبعد عن التمثيل بدون أيّ حجة منطقية او مبرّر قانوني كلّ من الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث والقوميين العرب والسنة في اللقاء التشاوري .
وفي المقابل وفي ردّ يكاد يكون مباشراً على رئيس الجمهورية دعا رئيس مجلس النواب نبيه بري الى إقامة الدولة المدنية التي تطيح النظام الطائفي وتقضي على الحصص المذهبية والطائفية وتصحح الخلل في توزيع الحقوق والواجبات في الدولة وارتباط المواطن بدولته وتلغي الامتيازات الطائفية للجميع دون استثناء وتقيم دولة المواطن التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون حقوقاً وموجبات.
وهكذا بين رفض الأعراف الجديدة والدعوة الى نظام مدني جديد تطرح الأسئلة حول المسار الممكن ان تسلكه الحركة السياسية اللبنانية مستقبلاً في ظلّ العجز المتمادي عن إدارة البلاد بمؤسسات الحكم الطائفي. هذه المؤسسات القائمة على خلفية تستبطن الشعور بالخوف المتوالد والغبن المتقلب.
من يعود الى تاريخ لبنان السياسي بعد إقامة لبنان الكبير في العام 1920 بقرار من المفوض السامي الفرنسي وما استتبعه من دستور في العام 1926 ثم من تعديل وصيغة عيش مشترك في العام 1943 وصولاً الى اتفاق الطائف في العام 1989 يجد أنّ هناك مجموعة من القواعد حكمت الحياة السياسية في لبنان جاءت نتيجة أعراف نشأت في مواجهة الدستور فتعدله ضمناً وتعارض مبادئ الديمقراطية الصحيحة. ونذكر هنا بالتوزيع الطائفي للمناصب السياسية وحصرية تملك طوائف معينة لمنصب او مقعد او وظيفة في السياسة والإدارة والجيش والقضاء واستبعاد الطوائف الأخرى عنها. ما شكل طعناً لمبدأ المساواة بين المواطنين ولو شئنا سرداً للقواعد العرفية التي جاءت في مواجهة النص الدستوري لوجدنا انّ النظام السياسي اللبناني هو نظام عرفي مقنّع بنص دستوري مجمّد او معطل يكفي ان نذكر ببدعة الديمقراطية التوافقية او قولة الحكم التوافقي او القول بالميثاقية التي تعطي هذا او ذاك حق الفيتو على أيّ قرار يتخذ في المؤسسات السياسية وفقاً نص الدستور.
وبالتالي إنّ فكرة اللجوء الى الأعراف الدستورية لا تعتبر فكرة طارئة على الحياة السياسية في لبنان، لا بل إنها هي الأساس في النظام السياسي اللبناني، وفي كثير من الحالات جاء النص عادلاً وقام العرف ثم استقام واستقرّ على إفساد هذه العدالة ما كان يستوجب بين الحين والآخر مراجعة تلطيفية من قبل المسؤول كما فعل الرئيس فؤاد شهاب في الـ 6 والـ 6 مكرّر على صعيد الإدارة والجيش والقضاء، او مراجعة فرضها ضغط الشارع والميدان كما حصل في الطائف بعد حرب مركبة ومعقدة تداخل فيها الداخلي الأهلي مع الإقليمي الدولي ودارت على أرض لبنان لمدة 14 عاماً ولم يوقفها الا وفاق دولي فرض اتفاقاً داخلياً ترجم في اتفاق الطائف. ما يعني انّ التصحيح وتلطيف قسوة النص او العرف كان يأتي إما نتيجة شجاعة الحاكم أو نتيجة شراسة المواجهة أيّ سلماً او حرباً .
أما اليوم وبعد اتفاق الطائف وتوقف الرعاية السورية لتطبيقه، فقد برزت في النظام السياسي ثغرات كبيرة نقلت الشعور بالغبن أو استشعار الخوف من طائفة الى طائفة وأنتجت بيئة سياسية لا يمكن للبنان ان يشهد معها استقراراً وانتظام عمل سياسي ويكفي ان نستشهد بحالات تعذر انتخاب رئيس جمهورية لمدة 29 شهراً، أو حالات تأخر تشكيل الحكومة لمدة تقارب السنة ربع ولاية مجلس النواب أو ممارسات رئيس الحكومة المتمتع بصلاحيات شبه مطلقة والتي لا يشبهها وضع في كلّ الأنظمة الدستورية ما جعل الآخرين يجتهدون في البحث عن تفسير أو نص أو عرف ما لتقييد هذه الصلاحية حفاظاً على حقوق طوائفهم أو أبناء طوائفهم. وعلى هذا فإننا نجد أنّ الكلّ يشكو من الغبن والظلم والكلّ يسعى لتناتش المكاسب والمصالح والكل خائف من المستقبل وجوداً ودوراً.
وفي ظلّ هذا الوضع، فإننا نرى أنّ على الجميع الاعتراف وبدون مكابرة تقود الى المغامرة، بأنّ النظام السياسي القائم هو ظالم غير عادل، والظلم يفسد الاستقرار، وانّ التعديل من اجل إقامة العدالة أمر لا بدّ منه فإن لم يحصل سلماً سيفرض بالقوة كما حصل في العام 1989 بعد حرب ضروس. ونذكر انّ الموارنة رفضوا في العام 1976 المسّ بالدستور فرفضوا الوثيقة الدستورية التي ابتغت تلطيف الوضع، واضطروا بعد ذلك الى القبول بانتزاع 65 مما كان الدستور يعطيه لرئيس الجمهورية من صلاحية.
يجب ان نعترف انّ هناك طوائف في لبنان إذا طبّقت حرفية النصوص بالنفس الطائفي القائم او بالأعراف المعمول بها، فستجد نفسها مهمّشة او خارج النظام رغم حجمها وقدراتها، وأنه من المستحيل ان يطلب منها الموافقة على إلغاء نفسها احتراماً للدستور ورفضاً لأعراف جديدة، وهنا نعود الى ما قاله الإمام موسى الصدر للحكام في العام 1969 عندما أسّس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، حيث قال: "اعدلوا قبل ان تندموا” فلم يصغوا اليه يومها فندموا بعد عقدين. كما نذكّر بدعوة السيد حسن نصر الله منذ 8 سنوات الى قيام مؤتمر تأسيسي يبحث في إقامة نظام العدالة السياسية والاجتماعية في لبنان ويعالج كلّ أنواع الغبن والخوف وعدم المساواة بين المواطنين.
على الجميع أن يعلموا أنّ الاستمرار بالنظام القائم هو أمر صعب لا بل شبه مستحيل، وانه في الحقيقة تأجيل للانفجار لا بل هو نوع من الانتحار البطيء، وانّ عليهم ان يقرّوا بأنّ النظام الطائفي القائم الآن هو أمام خيارين إما إعادة توزيع الحصص وفقاً للأحجام وللهواجس بما يحقق العدالة والطمأنينة والشراكة الحقيقية الفعلية التي تمنع قيام الثنائيات الالغائية او الثلاثيات او الرباعيات التهميشية، او ان يصار الى إسقاطه كلياً وإقامة دولة المواطن المدنية التي تكون فيها علاقة الفرد بدولته قائمة على درجة واحدة لا على درجتين، كما هو الحال اليوم، حيث نجد ان الانتماء الطائفي أشدّ من الانتماء الوطني، وان الفرد ملزم بهذا الانتماء الأول حتى ولو كان علماني العقيدة لأنه لا يحصل على حق في دولته إلا من خلال حصة طائفته.
ومن جهة أخرى نجد انّ هذا النظام هو منتج للفساد والمفسدين والفاسدين. وهنا نفسر دعوة حزب الله لمحاربة الفساد، العنوان الذي خاض الانتخابات الأخيرة على أساسه وهي دعوة ليست للتنكيل والمعاقبة وإنْ كانت محاسبة الفاسدين ضرورة، بل هي دعوة للإصلاح الذي يقفل الطرق امام الفساد. لانّ المدخل الحقيقي لمحاربة الفساد يكمن في إعطاء كلّ ذي حق حقه ومنع أيّ كان من مدّ اليد على حقوق غيره، ويجب أن يأتي الاصلاح السياسي في طليعة الحرب على الفساد، وبهذا نجد تناغماً بين ما يطرحه الرئيس بري وحزب الله من مواقف تقود الى الإصلاح وإقامة النظام العادل. فالدولة المدنية تقود الى العدالة والمساومة ومحاربة الفساد تستوجب إصلاحاً سياسياً يليه إصلاح إداري وعلى كلّ الصعد وبهذا الإصلاح نحقق العدالة ونرسي الطمأنينة للجميع فنمنع الانفجار الآتي مهما طال الوقت.
ونؤكد أنّ الدعوة للتطوير والإصلاح هي دعوة وطنية لا يمكن أن تكون موجهة ضدّ أحد شخصاً كان ام طائفة بل يجب أن تفهم وان تمارس على أساس انها دعوة لبناء وطن وإقامة دولة قادرة عادلة ودعوة للاستفادة من كلّ الطاقات الوطنية الفردية والجماعية دون أن تشكل الطائفية والمذهبية الضيقة عوائق او حواجز تمنعها.