واشنطن تفتح أوراق الضغط في وجه أردوغان!
بسام أبو عبد الله
لم يكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يضع سماعة الهاتف بعد الاتصال بالرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي قدم له طمأنات بأنه أمر بوقف شحنات الأسلحة لميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» حتى أعلن البنتاغون أنه لا يوجد شيء كهذا، وأنه لا إيقاف لضخ الأسلحة، وكذبت «قسد» ومصادرها، كلام ترامب وكشفت أن واشنطن قامت مؤخراً بنقل شحنات أسلحة جديدة إلى الكرد في القامشلي.
مجلس الأمن القومي التركي ناقش هذا الملف في اجتماعه الأخير وأشار إلى أنه يراقب هذا الوضع، لكن أوراق الضغط الأميركية، وخاصة من مؤسسات الدولة العميقة، لم تتوقف على أردوغان الذي أتته رسائل تحذير من حلف «الناتو» تقول إن عليه أن يراعي أولويات الحلف من خلال علاقته بطهران، وموسكو وهو الذي عقد حلفاً ثلاثياً ينغص خطط «الناتو» وواشنطن.
واشنطن لم تكتفِ بتحذير أردوغان، وإرسال رسائل متباينة منها ما هو «غزل وغرام» كما بدا الأمر باتصال ترامب، ومنها ما هو تهديد، كما ظهر خلال اليومين الماضيين من فتح ملفات وتسريب وثائق حول نشاطات أردوغان المالية مع عائلته والمقربين منه.
زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كيليتشدار أوغلو فجر مفاجأة أمام كتلته البرلمانية، حينما اتهم أردوغان وبعض أقاربه والمقربين منه، بالتورط في إرسال أموال خارج البلاد لشركات وهمية في عام 2011 تصل قيمتها إلى 15 مليون دولار، وتدعى الشركة «بيل واي ليمتد»، وموجودة في جزيرة «مان» التابعة للتاج البريطاني، وهي جنة ضريبية، وحسب ادعاءات كيليتشدار أوغلو فإن التحويلات حصلت بين كانون الأول 2011، وكانون الثاني 2012، وأن الشركة «بيل واي» أسست في آب 2011 باسم شخص واحد فقط في مجلس إدارتها اسمه صدقي أيان، وأنه تم نقل ملكيتها لشخص آخر يدعى كاظم أوزتاش في تشرين الثاني 2011.
زعيم حزب الشعب الجمهوري زعم ان شقيق زوجة أردوغان زيبا إبلغن حول 2,5 مليون دولار للشركة في كانون الأول 2011، وكذلك شقيقه، أي شقيق الرئيس، مصطفى أردوغان، وقام بتلاوة أسماء الذين حولوا، وتوقيت التحويلات المالية بما فيها مساعد الرئيس السابق مصطفى غوندوغان، وابن الرئيس أحمد الذي حول 1,45 مليون دولار في 29 كانون الأول 2011، و2,3 مليون دولار في الرابع من كانون الثاني 2012، وكان أعضاء الكتلة البرلمانية أثناء تلاوة الأسماء يعلون صوتهم مطالبين بـ«استقالة الرئيس»! كما تحدى زعيم المعارضة أن يعلن أردوغان عن حساباته المالية الخارجية.
لم تتوقف أوراق الضغط الأميركية هنا فقط، إنما حدث تطور آخر في قضية رجل الأعمال التركي الإيراني رضا ضراب، الذي سافر قبل عام تقريباً إلى الولايات المتحدة، وسلم نفسه للقضاء الأميركي للتحقيق بتهمة كسر العقوبات الأميركية على إيران، كما اعتقلت واشنطن نائب المدير العام لبنك الشعب التركي «خلق بنك» هاكان آتيلا في القضية نفسها خلال زيارة له للولايات المتحدة.
الجديد في هذه القضية أن المحكمة الأميركية وافقت على مثول ضراب كشاهد في القضية، وليس كمتهم بعد أن منحته حصانة في ذلك إثر قبوله التعاون مع القضاء الأميركي، وسوف يمثل كشاهد ضد معاون مدير «بنك الشعب» التركي بعد أن اعترف ضراب بذنبه، وإضافة لزراب سوف يمثل كشهود ادعاء أحد خبراء مكتب مراقبة الأصول الخارجية، وشاهدان من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي.
وكشف محامي الدفاع عن نائب مدير بنك الشعب أن الادعاء العام أطلق أكثر من 10 آلاف صفحة من الأدلة ذات العلاقة بـضراب بما فيها مراسلاته الإلكترونية.
بعد ساعات من إعلان ضراب كشاهد في القضية بدلاً من كونه متهماً، أعلن الناطق بلسان حزب العدالة والتنمية ماهر أونال أن هذه القضية مجرد مسرحية، وأن المسؤولين القضائيين الأميركيين يتعاونون مع خصم أردوغان اللدود حالياً فتح الله غولين، مضيفاً: «نحن نعرف كيف تطورت هذه اللعبة، وما هدفها».
أما نائب رئيس الحكومة التركية بكير أوزداغ، فقد دعا الإدارة الأميركية لإسقاط هذه الدعوى معتبراً أنها تفتقر للأسس القانونية، ويجب وقفها.
مقابل أوراق الضغط الأميركية هذه بادرت تركيا عبر المدعي العام في اسطنبول إلى إصدار أوامر توقيف بحق المدعي العام الأميركي السابق في نيويورك بريت بهارارا الذي كان قد بدأ بالقضية وقامت إدارة ترامب بطرده كجزء من حملة الإدارة بحق المدعين العامين في أميركا، وكذلك المدعي العام الحالي جون كيم بتهمة استخدام معلومات، ووثائق، وتحقيقات سابقة في تركيا تتعلق بهذه القضية، إذ يبدو أن هذه الملفات سرقت، وهربت خارج تركيا من شخصين ذوي صلة بفتح الله غولين، وهذان الشخصان سيمثلان كشاهدي ادعاء في قضية ضراب، وهما نائب سابق عن حزب الشعب الجمهوري اسمه آيكان إزدمير، وآخر اسمه عثمان زكي جانيتز، كما سيشهد في القضية رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات مارك دوبوفتيز، ونائبه جوناثان شانزير، حسبما أفادت بذلك وكالة أنباء الأناضول التركية.
ما أريده من عرض كل هذه التفاصيل الضرورية، ليس فقط إبراز الموضوع إنما خلفياته، وهي التالية:
تمارس الولايات المتحدة الأميركية أقصى درجات الضغط على أردوغان بسبب التقارب التركي الروسي، وتعمل على محاولة إخضاعه، وتتهمه بأنه موظف عند بوتين، ويجب ألا نصدق أن أميركا حريصة على مكافحة الفساد أبداً، فالقضية لم تتم على أراضيها، ولا يحق لها اعتقال الناس بهذه الطريقة البلطجية بغض النظر عن مدى صحة هذه الرواية الأميركية، فالهدف سياسي دائماً، وواشنطن لا تتورع عن استخدام أقذر الأدوات بحق من يخرج عن الطاعة.
إن الهدف الأميركي الآخر هو السعي لكسب تركيا بأي شكل بشأن مشروعها في الشمال السوري الذي أصبح محاصراً من الجيش العربي السوري والحلفاء، والحشد الشعبي في العراق، والجيش التركي، ولا يوجد منفذ لهذا المشروع إلا عبر تركيا التي يؤكد الجيش التركي أن هذا المشروع خط أحمر لن يسمح به.
تنظر واشنطن إلى أعمال أردوغان المتمثلة في تصفية شبكة فتح الله غولين، ذراع الـ«سي آي إيه» و«الناتو» داخل تركيا، وعناصر «ب ك ك»، على أنها أعمال خطرة للغاية لأنها تعني إضعاف نفوذ الولايات المتحدة، و«الناتو»، وأذرعه داخل تركيا مستقبلاً.
وتبدو أوراق الضغط هذه تمهيداً لانتخابات عام 2019 الحساسة والمفصلية، التي ستشهد انتخابات رئاسية وبرلمانية، وتطبق فيها التعديلات الدستورية بالنظام الرئاسي.
يبدو أن حزب الشعب الجمهوري «العلماني» يقود حملة تتحدث عن مشروع ترامب الجديد في الشرق الوسط بين أميركا، السعودية، الإمارات، "إسرائيل"، ويرون أن تركيا يجب أن تكون جزءاً منه، وليس جزءاً من المشروع الأوراسي.
لا يلغي هذا الطرح أن هناك قضايا فساد مطلقاً، ولكن أميركا دائماً تعمل على مبدأ «كلمة حق يراد بها باطل» فمتى كانت أميركا ناظر العالم في قضايا الفساد، وهو ادعاؤها نفسه بأنها تكافح الإرهاب، على الرغم من أنها شريك داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية.
الواضح أن التصويب باتجاه أردوغان، وفتح أوراق الضغط في وجهه هدفه تركيا وليس أردوغان، فأميركا كما عرفناها في سورية تعمل على شخصنة المسألة لإخفاء الأهداف الحقيقية.
لا أدافع عن أردوغان أبداً، ولكن علينا أن نفهم عمق الأشياء وخلفياتها، لا أن نبقى نتحدث عن الأمور السطحية، ونعمل بالغريزة، من دون العقل.
وأخيراً فإن ضراب هذا جرى تهريبه بعملية مشتركة بين الـ«سي آي إيه»، والـ«إف بي آي» عبر قاعدة انجيرليك في تركيا، لاستخدامه ورقة ابتزاز لاحقاً.
أجواء أنقرة لا تفيد بالخضوع، وسنرى في المرحلة القادمة ملفات كثيرة، لكن مع الإدراك كما قلت سابقاً إن أميركا تعمل وفق: «كلمة حق يراد بها باطل».