المعجزة السورية
د. فيصل المقداد
من رحم المعاناة والألم تولد المعجزات. وتتمثل المعجزة السورية في الصمود الأسطوري الذي ترسخه سورية جيشاً وقيادةً وشعباً في مواجهة أعتى التحديات التي واجهها أي شعب في هذا العالم. والمعجزة السورية هي محصلة ذلك الانتصار الآتي الذي سيجسد إنجازات شعب عظيم في مختلف جوانب الحياة عسكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً وإعلامياً. وعند الحديث عن هذه المعجزة، فنحن لا نقصد تحجيمها في بعدها السوري على الإطلاق لأنها ستعكس أيضاً إنجازاً لكل من وقف مع سورية من أشقائها العرب إقليمياً، ولأصدقاء سورية في المنطقة والعالم:
أولاً، سيسجل تاريخ الحروب بمختلف أشكالها بما في ذلك الحربين العالميتين الأولى والثانية، إن أياً من الجيوش التي خاضت تلك الحروب، لم تصمد كما صمد الجيش العربي السوري بمختلف تشكيلاته البرية والجوية والبحرية. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن طبيعة المعارك التي خاضتها الجيوش السوفياتية والحليفة آنذاك كانت من نوع الحروب الكلاسيكية في معظم مراحلها، فإن الجيش العربي السوري مقارنة بذلك يخوض معارك من نوع آخر يعكس بشكل ما عولمة الإرهاب، فهي في أغلبها معارك تعتمد على نوع من التدخل العسكري الخارجي عبر الحدود من خلال أدوات تقوم بشكل أساسي على المرتزقة من داخل سورية وخارجها. وإذا ما أخذنا في الاعتبار الضخ المالي الكبير الذي وفرته دول معروفة مثل السعودية وقطر بتعليمات وتوجيهات من صانعي القرار في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتركيا ودول أخرى في حلف الناتو، فإن الصورة متعددة الأشكال لهذه الحرب المعلنة على سورية تظهر بشكل جلي بكل تعقيداتها. وسيشهد تاريخ الحروب للجيش العربي السوري وقياداته تضحياتهم وبسالتهم منقطعة النظير في دفاعها عن استقلال وسيادة سورية وحرمة أراضيها.
ثانياً، لقد جسد شعب سورية بكل إبداعاته وإنجازاته الحضارية وفي كل قرية وناحية ومدينة أنصع صفحات العطاء والبذل والتضحية بالغالي والنفيس وتحمل أعباء ثمن المعجزة السورية. فقد حافظ الشعب السوري على وحدته الوطنية ووقف خلف جيشه يمده بكل متطلبات الصمود. فهذا الشعب لم يبخل بدفع حشود أبناءه إلى ساحات المواجهة والدفاع عن مؤسساته الوطنية وبناه التحتية أينما كان ذلك ممكناً بغض النظر عن التهديدات وأساليب الترغيب والترهيب التي شكلت منهجاً لأعداء سورية بما في ذلك أولئك الذين أفقد المال النفطي عقولهم فوجهوا السلاح إلى صدور السوريين غير عابئين بما جلبه مالهم وسلاحهم من ويلات على شعب سورية خصوصاً أن علاقاتهم مع «إسرائيل» ومصالحها، أصبحت أولوية لهم على حساب دماء السوريين واليمنيين والعراقيين والليبيين والمصريين والفلسطينيين. وعلى رغم محاولات بعض الأنظمة العربية استجداء التدخل الغربي المدمر في البلدان التي أشرنا إليها أعلاه، فإن شعبنا بفضل حكمة قيادته ما زال يميّز بين حفنة من الحكام في السعودية وغيرها من جهة، وأهلنا من العرب الذين وقفوا بكل شرف إلى جانب أشقائهم السوريين. وتغمرنا بالسعادة ومشاعر المحبة تلك المواقف التي يعبر عنها الأشقاء في موريتانيا والجزائر ولبنان واليمن والسودان وغيرها من الدول العربية، والذين وقفت نخبة من مفكريهم وسياسييهم إلى جانب سورية طيلة السنوات الأربع الماضية.
ثالثاً، من أخطر الأسلحة التي أنتجتها العصور الحديثة هي سلاح الإعلام والذي أصبح الغرب وعملاؤه يسخّرون أخطر العقول والإمكانات المالية الهائلة من أجل احتكار السيطرة عليه. وفي الحرب على سورية بشكل عام وعلى جيشها وشعبها بشكل خاص، استخدم أعداء سورية أحدث تقنيات هذا السلاح فأصبح لبعض المرتزقة السوريين والحاقدين من تنظيمات مسلحة وأخرى تكفيرية ومتشددة الكثير من محطات التلفزة وعشرات المحطات الإذاعية المرتبطة بشكل مدروس مع أجهزة الإعلام المتصهينة لبث الدعاية الرخيصة المسمومة ضد سورية، والتي جعلت من الحق باطلاً ومن الانتصار هزيمة ومن الوحدة تفرقة ومن الأبيض أسود ومن القاتل نعامة ومن الإرهابي مناضلاً من أجل الحرية. إن سورية تخوض الآن معركة ضد هذا النوع من التضليل: ألم يقم هذا الإعلام أخيراً بالتحريض العنصري والإقليمي والعشائري واستنهاض كل ما في جعبته من أحقاد وأمراض من مخلفات عصور التخلف العثماني والاستعماري، في محاولة جديدة لتفتيت سورية أرضاً وشعباً؟ نعم، لقد تأكدنا طيلة هذه الحرب أن أموال النفط كانت سخية على كثير من محطات التلفزة المعروفة التي تدّعي الحياد والاستقلالية والموضوعية والتوازن والمهنية في نقل الأخبار، كي نكتشف أنها تلقت أموالاً لتلفيق الأخبار ضد سورية وتخصيص ساعات إرسال كثيرة مدفوعة الثمن في الحملة الإعلامية الظالمة على سورية وشعبها وقيادتها، لكن الإعلام السوري والعربي الشريف كان لهؤلاء بالمرصاد، ويشهد على ذلك شهداء الإعلام السوري وجرحاه … ألا يشكل هذا الصمود معجزة سورية؟
رابعاً، إن الحرب هي الحرب، هي الدمار وهي التقدم والتراجع هي الموت وهي الحياة. لا أحد منا يرغب بشنّ الحرب، لكن عندما يفرض الإرهابيون ومن يدعمهم الحرب، فإن الرد الطبيعي هو مواجهة الإرهاب وممارسة الحق في الرد على الإرهاب وعلى كل من يدعم الإرهاب. من كان يتصور أن يصل الأمر بقادة دول في الاتحاد الأوروبي كما هي الحال مع الرئيس الفرنسي هولاند لكي يصبح عبداً لدى السعودية يأخذ أموالها مقابل صفقات تسليح ونفط وتأمين مظلة سياسية لهؤلاء في دعمهم الإرهاب وحربهم على اليمن وانتهاكاتهم التي لا سابق لها لحقوق الإنسان وللمبادئ التي حملها الشعب الفرنسي في الحرية والمساواة والإخاء التي أصبحت معروضة للبيع والشراء والمتاجرة بها على المنابر الدولية والمؤتمرات الصاخبة؟ وعندما تواجه سورية هذه التكتلات التي قد يعتقد البعض أنها متناقضة في أبعادها الفكرية والإيديولوجية والسياسية، لكنها موحدة في خدمتها لأغراض «إسرائيل»، فإن الحقيقة التي يجب التمسك بها هي أن صمود سورية لم يكن معجزة فحسب، بل إن ذلك يؤكد صحة منطلقات القيادة السورية المدافعة عن المبادئ والقيم النبيلة في عصرنا وأيامنا هذه التي فقدت فيها السياسة قيمتها، وأظهرت عجزاً مريعاً في قدرة المنظمات الإقليمية والدولية على معالجة مشاكل هذا العصر لا سيما سياسة فرض التحكم بمصير العالم لقطب واحد، يفترض أن العالم كله يجب أن يسير وفق إرادته وأهوائه بكل ما في ذلك من انحرافات ومظالم واستغلال وفساد وازدواجية المعايير في معالجة مشاكل عالم اليوم.
خامساً، قد تمتد حروب الإرهاب سنوات وسنوات، خصوصاً إذا اعتمد الإرهابيون في حروبهم على دعم عسكري ومادي مستمر. فالولايات المتحدة التي ستقوم بتدريب ما تسميه مجموعات سورية مسلحة معتدلة بذريعة مقاومة «داعش» و«جبهة النصرة» على الأرض التركية وعلى الأرض الأردنية، إنما تكذب على الشعب الأميركي وعلى الرأي العام العالمي. إن الولايات المتحدة بذلك تقوم بدعم الإرهاب وبتعقيد شروط الحل السياسي في سورية، بهدف إضاعة الوقت وإطالة وإدامة المواجهة لفرض مخططاتها في المنطقة وبخاصة لحماية «إسرائيل» ومصالحها، بما في ذلك هيمنتها على مقدرات الشرق الأوسط ومنع أية تحولات إيجابية لمصلحة شعوب المنطقة، وعلى الولايات المتحدة أن تضع يدها بيد كل الدول التي تريد مكافحة الإرهاب بدلاً من وضع يدها بيد الإرهابيين ومن يدعمهم والابتعاد من سياسيات الاعتداء الصارخ على سيادة الدول وتغيير أنظمتها بالقوة. إن التحالف غير المقدس بين «إسرائيل» والعائلة السعودية الحاكمة في الجزيرة العربية وبعض الدول الغربية يمثل أبشع أشكال الانتهازية في العلاقات الدولية التي يشهدها عالم اليوم. وبدلاً من ممارسة أقصى أشكال الحكمة لإيجاد حلول للمشاكل التي يواجهها عالم اليوم كما فعلت أجيال سابقة من القيادات في الولايات المتحدة وأوروبا، فإننا نرى تهافتاً وتنافساً غير مسبوقين من قبل قادة هذه الدول على منطقتنا لم نشهد لهما مثيلاً منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وإذا كان المقصود بهذه السياسات العودة إلى منطق تغيير الأنظمة السياسية بالقوة في بلدان العالم، فإن هذا النهج السياسي سيقود إلى مزيد من الدمار والقتل، ليس في منطقتنا فحسب، بل وفي أي بلد تريد الإدارات الأميركية والقيادات الأوروبية تغيير قياداته، لأن هذه القيادات لا تعمل تحت راياتها ولا تلبي سياساتها الاستعمارية بجميع أشكالها القديمة منها أو الحديثة.
خاتمة
المعجزة السورية آتية وستتحقق، والانتصار السوري سيكون درساً قاسياً لكل من يحاول استخدام الإرهابيين والقتلة للوصول إلى غايات سياسية. وها هم الأبطال السوريون من الجيش العربي السوري واللبنانيون من حزب الله يسطرون في هذه الأيام والساعات أنصع صور النضال ضد الإرهاب وضد كل من يدعم الإرهاب ويعتدي على سيادة الشعوب وكرامتها. أما الهجمات السياسية والإعلامية التي يقوم بها الغرب وأدواته ضد أطراف المقاومة السورية واللبنانية والإيرانية والعراقية واليمنية وغيرها، فإنها لن تجد سوى الفشل إثر الفشل، فالمقاومون اتخذوا قرارهم الذي لا تراجع عنه أمام حلف قطع الرؤوس وأكلة الأكباد والقلوب الذي تدعمه سراً وأحياناً علناً بعض الدول الغربية وأدواتها في المنطقة من دون أي خجل. إن إعادة فتح ملفات الأسلحة الكيماوية في سورية من قبل الدول الغربية محاولة أخرى لابتزاز سورية ولن تجدي هذه الضغوط السياسية في تحقيق أهدافها، فسورية وقناعة منها بعدم جدوى مثل هذه البرامج، تخلت عن برامجها وعلى الدول الغربية إن كانت صادقة في دعايتها أن تطالب بوضع أسلحة الدمار الشامل «الإسرائيلية» تحت الرقابة الدولية وتصفية هذه الأسلحة وأن تتوقف عن تزويد عملائها وإرهابييها بمادة الكلور ووقف البحث عنه وعن مزيد من الذرائع للتدخل في الشؤون الداخلية السورية على حساب معاناة الأطفال والنساء الذين تقتلهم غازات الكلور التي يستخدمها الإرهابيون بتخطيط وإمداد من قبل تركيا والسعودية وأجهزة مخابرات غربية. وستمارس سورية كل الشفافية، كما فعلت حتى الآن، في تعرية الدول التي تمارس هذه الألعاب الخطيرة. سورية تؤمن بالحل السياسي لأزمتها، وهذا يستوجب من الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص إلى سورية العمل على وقف الدعم الذي تقدمه تركيا والسعودية وفرنسا والولايات المتحدة للإرهابيين والقتلة أولاً. نحن نعرف أن سورية لن تعود إلى ما كانت عليه بعد انتهاء هذه الحرب، لكننا نؤمن أنها ستكون أفضل في المستقبل اقتصادياً وأمنياً وثقافياً لكل أبنائها في شمالها وفي جنوبها وفي شرقها وفي غربها. لقد أعادت مشاورات موسكو الأولى والثانية الأمل إلى قلوب السوريين وأصدقائهم، ولن تترك القيادة السورية أي فرص لإعادة الأمن والهدوء إلى ربوع هذه البلاد الطاهرة من دون السعي إلى دعمها للوصول إلى حلّ سياسي يضمن حلّ هذه الأزمة من خلال حوار سوري ـ سوري وبقيادة سورية ومن دون تدخل خارجي. إنّ غداً لناظره قريب.
ألم نقل إنها المعجزة السورية؟