مصر والأوراق الضائعة منذ اربعة عقود ونيف
لؤي توفيق حسن
ماذا يحدث في مصر ... من حقنا أن نسال، ومصر هي الدولة العربية الكبرى والرافعة في ميزان القوى. من حقنا أن نسأل فيما يبدو لنا أن لا شيء قد تغير في الجوهر! بعد ثورتين خرجتا من لدن شعبها، واستولدتهما معاناة أربعة عقود من الفشل والبؤس السياسي، ومن حقنا أن نسال طالما أن التغير المنشود لم يتعد قشرة على السطح بقيت في حدود الأسماء لا أكثر. من حقنا أن نسأل إلى متى التنازلات تلو التنازلات منذ كامب ديفيد، او لنقل تقديم الأوراق مجاناً هذا باللغة السياسية البراغماتية حيث المصالح والحسابات الباردة!..
منذ اربعة عقود ومصر تهدر رصيدها، ابتداءً من كامب ديفيد وخرافة أن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا وهو في الواقع شكل تنازلاً من مصر عن 99% مما كان بحوزتها من اوراق، ابرزها: التداعيات العسكرية والنفسية على العدو جراء معركة العبور، التضامن العربي، التأييد الدولي، الدعم السوفياتي، حتى هذا الأخير فقد بقي بالرغم من الهدية المجانية التي قدمها السادات لأمريكا بطرده للخبراء السوفيت صيف عام1972 !. أما ما قالت عنه الجوقة الساداتية من (الإنجاز العبقري) في تحرير سيناء، فإن من ينظر إلى ما عرض على عبد الناصر وهو مهزوم يدر كحماقة بل وغباء التنازلات وبيع الأوراق مجاناً في كمب ديفيد؛ وما عُرض على عبد الناصر موثق سواء في أرشيف الرئاسة او في وزارة الخارجية المصرية. وهي خمسة عروض ثلاثة خلال عهد جونسون واثنان في عهد نيكسون، وكلها تدور في الشكل او في النتيجة حول الأفكار ذاتها التي جاءت على لسان ليفي أشكول رئيس وزراء (اسرائيل) الأسبق في مقابلة أجرتها معه مجلة نيوزويك الأمريكية بتاريخ 17 فبراير/شباط 1968 حيث قال: " أنني ما زلت مستعداً لأن أطير إلى القاهرة، ولن أتحدث مع ناصر كمنتصر ولكني سأبلغه أن إسرائيل مستعدة لإعادة سيناء كاملة إلى مصر وبدون أي قيد أو شرط حيث أنه لم تكن لإسرائيل فى أي وقت طلبات من أجل نزع سلاح سيناء، ولكن بالنسبة لمرتفعات الجولان والقدس والضفة الغربية فإن إسرائيل ببساطة لن تتنازل عنها، سنرد لناصر سيناء بدون شروط مقابل أن يهتم بشؤون مصر ولا يتدخل فى شؤون الدول العربية الأخرى”. وكان رد عبد الناصر على ما عُرض عليه هو رفض الحلول الجزئية، وقد عقب على ذلك في جلسة لمجلس الوزراء المصري بتاريخ 6نوفبمر/تشرين الثاني1968 قائلاً فيما قال: " إنها الخيانة بعينها..”، يقصد القبول بالحلول الجزئية، وتبدو رؤية عبد الناصر فيما اوضحه في خطابه بستاد الخرطوم: "هذه المشروعات المشبوهة..تتلخص أساساً في التفرقة بين العرب، تسوية لمصر وحدها، ثم بعد هذا تسوية للأردن، وكنا علم أن هذا يعني ضياع الضفة والقدس...”. أليس هذا هو ما حدث فيما بعد، ونعيشه حتى اللحظة!، ويبقى بيت القصيد رؤية عبد الناصر الاستراتيجية، من أن العروض (السخية) التي قُدمت له كانت فخاً للإجهاز على " دور مصر القومي”، ومرة أخرى نسأل: أليس هذا هو ما وصلت إليه مصر عندما ذهبت نحو التسوية منفردةً لتفقد بعدها دورها القيادي في العالم العربي؟! .
وعلى هذه النسق من بيع الأوراق والتنازلات جرى بيع القطاع العام أو الإجهاز على ما تبقى منه في عهد مبارك . لا نعرف اي منطق هذا الذي يجيز بيع مؤسسات انتاجية رابحه ومجدية كانت رصيداً قوياً وصمام أمان اجتماعي و اقتصادي على حد سواء، وقد اثبتت التجربة أن هذا القطاع شكل في أحرج اللحظات خط الدفاع الأساس عن الاقتصاد المصري موفراً لمصر مقومات الصمود بعد هزيمة 67 ، فيما البدائل التي جاءت بعد ذلك كان اقتصاداً غير منتج على رأسه حفنة من السماسرة او ما سمي بـ”القطط السمان” الذين سرقوا اموال المصرين سواء بالثمن البخس الذي اشتروا فيه القطاع العام، او بشركات "النصب” القابضة التي أوهمت الناس بمشارع وهمية لتبتز اموالهم ثم لتهربها وهي بمليارات الدولارات إلى الخارج قبل أن تعلن إفلاسها !!!..وبكل الأحوال فإن خيار "الاقتصاد الحر” الذي انتهجته مصر بعد عبد الناصر قد قادها إلى هذا البؤس الاقتصادي والاجتماعي، أما التصور بأن التسليم لأمريكا هو (الحصن الحصين) من الشرور قادها إلى البؤس السياسي. وقد عكستها مقولات السادات التي أعلنها على الملأ:
" 99% من أوراق الحل بيد امريكا”! ، أو "ليس بوسعي محاربة أمريكا "! ، وفي السياق نفسه سار مبارك وعبر عن ذلك بقوله: "لا يستطيع أحد ان يختلف مع امريكا”!!. جاء ذلك في إحدى لقاءاته القليلة مع حسنين هيكل وذكرها الأخير في كتابه "مبارك وزمانه”. والحقيقة أن ما نقله هيكل عن مبارك في هذا اللقاء لافت جداً ويعكس بجلاء غياب الرؤية الاستراتيجية عند راس الدولة المصرية، بل إن بعضها يعكس قدراً أكبر من فظاعة الضحالة السياسية ثقافةً ولغةً منها مثلاً قول مبارك:
".. لا أعرف لماذا اختار الرئيس جمال صداقة السوفيت وهم ناس فقري، بينما السادات اختار الأمريكان وهم المتريشين - يقصد الأغنياء - أكبر خطأ وقع فيه الرئيس عبد الناصر هو الخلاف مع امريكا "!!. أما مقولة مبارك :” لا أحد يستطيع مساعدتنا على اسرائيل إلا أمريكا " ، فهي اكبر دليل على التهالك والغباء السياسي لأن هذا يؤكد أهمية اسرائيل في الاستراتيجية الامريكية كاستثمار سياسي واستعماري ناجح في تليين إرادة العرب وجلب "العاصي” منهم إلى بيت الطاعة الأمريكي ! .لنقارن هذا مع ما قاله وزير خارجية مصر محمود رياض بعد أشهر من هزيمة 67 لمندوب امريكا في الأمم المتحدة أرثر جولدبيرج : "لن نسمح بإعطاء إسرائيل مكاسب إقليمية مكافأة لهاعلى عدوانها” .لكنها للأسف حصلت فيما بعد!، وكانت أكبر "مكافأة” لها الاعتراف بها والتطبيع معها، لتكر السبحة مع دول عربية أخرى علانية أو تحت الطاولة، لكن يظل ما تحت الطاولة أدهى وأمر حيث التنسيق العسكري والأمني بين اسرائيل مع بعض العرب الذي يرتقي إلى مرتبة التحالف الاستراتيجي !.
الدور الغائب
هذه المراجعة النقدية تتعدى غايتها حدود المقارنة الوصفية، فالحقبة الناصرية تدافع عن نفسها بإنجازاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما وأن جمال عبد الناصر دخل التاريخ من واسع أبوابه وهو في قبره ما زال يشكل قلقاً كبيراً لأعدائه. إن الغاية من كل ما سبق هو أن يخرج ساسة مصر من أوهام الحقبة الساداتية وما تلاها، وكانت أقرب لسياسة العمودية -(المختار)-، أن يخرجوا إلى آفاق الاحتراف السياسي ، حيث الرؤية والبصيرة وبوصلتها قاعدة ثابتة، وهي أن السياسة بين الدول ليست جمعية خيرية لتسمح بمصطلحات "فقري” و”متريش” التي استعملها مبارك! ؛ ما من هبات مجانية. بل هي حسابات بالسنتمتر من تقاطع المصالح. أخذ من مكان، وسداد يقابله من مكان آخر. ليس هناك دفعة على الحساب في السياسة، كما فعل السادات عندما طرد الخبراء السوفيات عام 72، وكحال مصر والتخوف من انزلاقها في اليمن نحو حرب قائمة على الارتجال السعودي كما عودتنا المملكة في الغالب!، وحتى لو سلمنا جدلاً بأن السعودية قد ذهبت إليها بحساباتها! فإن مصر في الحالتين مستتبعة فيها، مستتبعة حين لم تستشر فيها مسبقاً فقد جرى إعلامها بالعمليات العسكرية قبل ساعات من انطلاقها بخلاف تركيا التي كانت على علم بها قبل أيام من البدء بها!. ومستتبعة ايضاً لأن ذلك غير مربوط بحسابات مصر وأمنها وقدراتها لا سيما في هذه اللحظات الحرجة التي ينخرط فيها جيشها بمواجهة قاسية مع الارهاب وعلى رقعة واسعة من صحراء سيناء إلى اقصى الغرب المصري وهي مستتبعة ايضاً وايضاً لأن الثمن غير واضح، إلا إذا كان الثمن في العقل السياسي المصري ما زال هو المال، فيما يبدو نوعاً من الرهن الرخيص للدم المصري مقابل وعود ورقية في شرم الشيخ !. هذا غير الشرف المهدور في المبدأ من هكذا صفقة!، وبمقياس آخر ألم تكتف مصر بتجربتها من الوعود الأمريكية الخائبة لقاء(السلام مع اسرائيل) ، والانعطاف إلى (الانفتاح الاقتصادي)!! . ألم تنظر مصر إلى وعود مشابهة بذلتها السعودية وغيرها من دول النفط للبنان بعد مؤتمر الطائف، ثم باريس1 وباريس2. ومؤخراً المساعدة العسكرية السعودية بقيمة 3 مليارات. وكلها لم يصل منها دولار واحد!، فيما الحصيلة اكثر من 60 مليار دولار حجم الدين العام في لبنان!. ليس مكان مصر في متاهات الجبال اليمنية أو قبالة خليج عدن تقصف ببوارجها، او طائرات تستهدف في الغالب الأعم مدنين ابرياء، وكل هذا وفقاً لحسابات سعود الفيصل الخرقاء!؛ فيما البادي ان امريكا قد تركت السعودي يتورط في اليمن !!، وهذا ما شجع تركيا وباكستان على الانكفاء. إن موقع مصر ليس في هذا التحالف الهش المبتور !. وليست لتكون أداة عدوانية على الشعب العربي في اليمن. إن ما تملكه مصر من معطيات تجعلها أهلاً لقيادة العمل العربي. هذا في لحظة يحتاج العرب لمصر تستعيد دورها التاريخي في "معمعان” هذا الفراغ بل الضياع العربي . وهنا وهنا فقط تستطيع مصر إذا عرفت أن تلعب بأوراقها، أن تستثمر في السياسة. فالسياسة الجيدة تجلب اقتصاداً جيداً، والسياسة السيئة تكبل القوي ليصبح متسولاً على ابواب الاثرياء . وتاريخ مصر القريب خير شاهد.