kayhan.ir

رمز الخبر: 149894
تأريخ النشر : 2022April30 - 20:03

محوريّة القدس.. 5 موجات من فرز المواقف والخطاب

 

محمد فرج

شكَّلت القدس المحور الذي انقسمت حوله أشكال الخطاب وآليات العمل بين الدول العربية بعد إعلان الاستقلال. وأنظمة التخلّي عن القدس تعتبر أنّ "الربيع العربي" قدّم لها هدية مجانية.

مع كلِّ الأثر الوجداني الذي يتركه عنوان "القدس هي المحور" في المسار التعبوي للناس في يوم القدس، فهو يحمل في ثناياه أيضاً شعاراً سياسياً بامتياز، ويشكّل وحدة صارمة لفرز مواقف الأطراف الإقليمية والدولية من فلسطين تحديداً.

الترجمة التاريخية للشعار تكشف عن محطات سياسية كانت القدس فيها فعلاً محور صياغة السياسات وتشكيل الخطاب بين مختلف الفرقاء في المنطقة. على امتداد 30 عاماً من لحظة الإعلان الرسمي الظالم عن نشأة الكيان الاستيطاني في فلسطين إلى لحظة "كامب ديفيد"، تحركت الأطراف الدولية وقوى المنطقة على إيقاع هذه المحورية.

منذ اللحظات الأولى، فُرزت القوى في المنطقة بين اتجاهين؛ القتال والمواجهة أو التسليم بقرارات "الشرعية الدولية" وتصديقها والأمل في إنصافها، وتبرير الموقف تحت عنوان الواقعية السياسية.

شكَّلت القدس المحور الذي انقسمت حوله أشكال الخطاب وآليات العمل بين الدول العربية بعد إعلان الاستقلال. التوجه الناصري في مصر، والتوجهات القومية الأخرى في سوريا والعراق والجزائر، حملت شعار المواجهة الذي أوصلها إلى لحظة أكتوبر (كانت تعبيراً عن يوم قدس حقيقي لولا الخيانة السياسية الساداتية).

في الجانب الآخر، اتبعت دول الخليج سياسة "درء الحرج"، من خلال تجنب الاشتراك في المواجهة المباشرة، فما كانت تصريحات قطع إمداد النفط إلا فقاعة إعلامية خدمت الطفرة النفطية اللاحقة، ولم يكن في بنودها الدقيقة ما يشكّل أذى حقيقياً للولايات المتحدة.

وبذلك، صاغت محورية القدس خلال 30 عاماً مهمة الفرز بين خطاب المواجهة (بكلّ ما حمل من أحلام وآمال) وخطاب "درء الحرج" (بكل ما حمل من فنون الدعاية والاختباء خلف موقف وجداني مضلّل).

بالمناسبة، لم يكن الفرز بين هذين التوجهين مجرد ظلال للتناقض الأيديولوجي خلال الحرب الباردة (اشتراكي – رأسمالي)، إنما كان يدور أيضاً في فلك الموقف من القدس!

الفرز في موجة اتفاقيات "السلام"

استمرّت سياسة "درء الحرج" مع توقيع اتفاقيات التطبيع مع الكيان الاستيطاني، وترافقت مع مبدأ "99% من أوراق اللعبة بيد أميركا". ظهر اللاعب الإيراني بعد انتصار الثورة الإسلامية ليعمّق حالة الفرز الإيجابي بين اتجاهين؛ اتجاه "براغماتي" حاول تعزيز حجته لاحقاً بانهيار نظام القطبية الثنائية في بداية التسعينيات، واتجاه المواجهة القائم على مبدأ الاستعداد وامتصاص صدمة تحوّل العالم والتحضير للحظة تاريخية ممكنة لاحقاً.

خلال هذه الموجة، وحدهما محور "دمشق – طهران – المقاومة في فلسطين ولبنان" وثبات المزاج الشعبي في المنطقة بشأن القدس منعا حالة السيولة في الموقف الرسمي من القدس من التمدد والتحول إلى فكرة رائجة ومقبولة.

وبذلك، لم تنتقل ذهنية اتفاقيات "كامب ديفيد" و"وادي عربة" من الموقف الرسمي إلى الوجدان الشعبي. على العكس، اضطر الموقف الرسمي إلى ابتكار أدوات جديدة في التورية والتضليل على قاعدة "التوقيع والانحياز إلى الفلسطينيين في الوقت نفسه".

بالنسبة إلى أوسلو، ثبتت النتائج العملية للاتفاق (73 اعتداء على المسجد الأقصى خلال 5 سنوات بعد التوقيع) التيار الفلسطيني الأوسع الذي لم يؤمن بالتفاوض، حتى من زاوية دعاية "فنّ الممكن" و"المكتسبات المتاحة في ظل موازين القوى".

الفرز بعد حرب تموز

قطعت محورية القدس شوطاً إضافياً واسعاً مع حرب تموز، وذلك لسببين أساسيين:

أولاً: شكّلت النتائج المفاجئة للحرب إرباكاً لخطاب محور "الاعتدال"، القائم على "واقع" عدم توازن القوى، وأن المواجهة محض "مغامرة"، وكان ذلك سبباً رئيسياً لمسارعة هذا "المحور" إلى تبني خطاب بديل، متكيّف مع الوقائع الجديدة، وقائم على مبدأ "مواجهة خطر الهلال الشيعي"، في محاولةٍ لإزاحة فرز محورية القدس إلى شكل آخر من الفرز.

ثانياً: فتحت نتائج الحرب شهية الفصائل الفلسطينية المقاومة في الداخل على مزيد من التنسيق، وهو الأمر الَّذي انعكس على أدائها في السنوات اللاحقة من المواجهة.

وقد مثّلت حرب تموز مرحلة الانتقال من الفرز بين تياري "الاعتدال والواقعية السياسية" و"تيار المقاومة" إلى الفرز بين التيار الأخير وتيار "مواجهة التمدد الشيعي".

الفرز في "الربيع العربي"

اعتبرت أنظمة التخلّي عن القدس (مهما كانت أسماؤها المستعارة من "الاعتدال" و"الواقعية السياسية" إلى "مواجهة التمدد الشيعي") أنّ "الربيع العربي" قدّم لها هدية مجانية في نسخته السورية بالتحديد، نظراً إلى ما اعتبرته فرصة لتأجيج الصراع الطائفي وإطفاء وهج "محورية القدس".

اعتمدت هذه الأنظمة في دعايتها على تقديم فكرة مواجهة التنظيمات التكفيرية بوصفها "اقتتالاً داخلياً ناره أكثر شدّة من نار الاحتلال الإسرائيلي نفسه". من هنا، تم التأسيس للرواية القاتلة والمضللة "تحالف القوى السنية والاحتلال في مواجهة إيران". ومن هنا أيضاً، انطلقت موجة المسلسلات الدرامية التي تتحدث عن تاريخ العيش المشترك مع اليهود، باستخدام مقاربات تاريخية مضللة وغير صحيحة.

فُتحت شهية الخليج على خطاب أكثر صلافةً بشأن التطبيع واتخاذ خطوة خاطفة على وقع "الشعور العام الجديد" وإبرام الاتفاقيات مع الاحتلال، منتشية بدعم إدارة ترامب، على اعتبار أنها نسق أميركي سيطول.

فشل محور "التطبيع الصلف" في فرض الموجة الجديدة، وانقلبت بنتائج عكسية ضده، فحالة الاحتقان التي عمل على تأجيجها خلال "الربيع العربي" عاشت حالة من التفريغ والارتياح على وقع التمييز الشعبي (الحسّ السليم) بين جنون التصريحات الخليجية المعادية للقدس، وتلمس الموقف العملي والحازم في المواجهة، والممتد من طهران إلى لبنان، من دون أن ننسى اليمن (الذي تعرّض بدوره لدعاية مضادة لا تقلّ حجماً).

مع تبدّد ضباب "الربيع العربي" وكشف أدوات اللعب خلاله، تعيش محورية القدس موجتها الخامسة (بعد الأعوام الثلاثين الأولى من الاحتلال، واتفاقيات التطبيع، وحرب تموز، و"الربيع العربي"). في هذه الموجة، تظهر صورة المشاركين في منبر القدس، وفي جعبتهم، إضافة إلى الخطاب الصادق، رصيد تاريخي مترافق مع رصيد جديد الصلاحية، من معركة "سيف القدس" والعمليات البطولية في فلسطين إلى الكلمة التي ستحفر عميقاً: "فلسطين لا تتحرّر إلا بالمقاومة".