kayhan.ir

رمز الخبر: 115841
تأريخ النشر : 2020July17 - 23:19

استراتيجية أميركا في الشرق الأوسط: بقاء أم انسحاب؟


د. علي ابراهيم مطر

يطرح الكثير من التساؤلات اليوم داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها حول انسحابها من الشرق الأوسط. ويواجه الكثير من الباحثين والدبلوماسيين والضباط العسكريين الأميركيين مثل هذه الأسئلة التي تضع الولايات المتحدة الأميركية أمام ضغط يضاف إلى الضغوطات التي تواجهها في إدارة علاقاتها الدولية، وبالتالي البحث عن إجابات واقعية لمستقبلها في الشرق الأوسط.

وتظهر العناوين الرئيسية للحركة الدبلوماسية والعسكرية الأميركية، أن العامين الماضيين لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يتميزان بسلسلة من التحولات الجذرية التي تحفز على الاختيار بين الاصطدام أو الانسحاب الجزئي التكتيكي ومن ثم الانسحاب الاستراتيجي من منطقة غرب آسيا.

لقد حصل الكثير من الإشارات التي عكست التخبط في سياسة دونالد ترامب في المنطقة، من تخفيف التدخل تارةً إلى تكثيف الضربات الجوية الأميركية تارة أخرى، إلى الإعلان عن سحب القوات العسكرية من شرق سوريا، ومن ثم الذهاب نحو نشر قوات إضافية في المنطقة لمواجهة إيران إثر اغتيال الشهيد القائد قاسم سليماني وما سبقه من توترات في منطقة الخليج الفارسي.

كل ما ذكرناه حتى الآن، يعطي تفسيرات متضاربة وشديدة الاختلاف لموقف إدارة ترامب في الشرق الأوسط. حيث يوجد تفسيران أساسيان الأول هو التحذيرات من حرب جديدة، والثاني إعلان "حقبة ما بعد أميركا" في الشرق الأوسط. ومع ذلك فلا مساحة في التركيز على اصطلاح الانسحاب وهو التفسير الأكثر واقعية لدور الولايات المتحدة الأميركية المقبل، إذ يتفق معظم الباحثين في مراكز الدراسات الأميركية والضليعون في السياسة الخارجية لواشنطن على أن شيئًا أساسيًا حول وجود أميركا في المنطقة يتغير، إلا أنهم يعتبرون أن الانسحاب الكامل للولايات المتحدة دون أي ترتيبات في المنطقة سيكون كارثة، ومع ذلك يطرح السؤال لماذا الانسحاب؟

أولاً: الشرق الأوسط لا يستحق المعاناة

بعد ما قدمناه سالفاً نعرض بعض الاراء الصادرة عن باحثين أميركيين، مستفيدين من عدة دراسات نشرها مركز الاتحاد للأبحاث، ونشير بدايةً إلى حوار نظّمه جون الترمان مدير برنامج الشرق الاوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن (CSIS) بتاريخ 22 حزيران/ يونيو 2020، مع جاك سوليفان حول النقاط التي طرحها في مقال كتبه مع دانيال بنعيم بعنوان "فرص أميركا في الشرق الأوسط: يمكن أن تنجح الدبلوماسية حيث فشلت القوة العسكرية" نشرته مجلة فورين افيرز بتاريخ 22 ايار/ مايو 2020.

طرح طوني كولدزمان تعليقًا في احد النقاشات الداخلية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن أشار فيه إلى أنّه "لا يمكن لأحد في الخليج الفارسي الآن التنبؤ بمستوى التزام الولايات المتحدة بالبقاء في المنطقة أو خطر الضغط على إيران والذي سيثير بدون شك انعدام الثقة".

بالمقابل يتحدث جاك سوليفان عن الموازنة بين القلق والطمأنينة يعني حث الدول الخليجية على المشاركة في جهد دبلوماسي جاد، مشيراً إلى أنه حتى أثناء البدء في تقليص البصمة العسكرية الأميركية والمتابعة الدبلوماسية مع إيران، يجب على واشنطن أن تظهر أنها جادة في مساعدة المملكة العربية السعودية والشركاء الإقليميين الآخرين في الدفاع عن أراضيهم ضد الصواريخ والطائرات بدون طيار والسفن السريعة والهجمات السيبرانية والمادية. ويمكنه أيضًا الضغط على الحلفاء الأوروبيين لإعادة تنشيط جهد متعدد الأطراف حقيقي لتأمين الممرات المائية الحيوية.

وفي حين ناقشت أصوات بارزة في واشنطن في أن مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتضاءل وستتطلب من الولايات المتحدة "أن تفعل أقل"، طرح كل من جاك سوليفان ودانيال بنعيم، فكرة أنه يجب على الولايات المتحدة أن تكون أكثر طموحًا باستخدام النفوذ الأميركي والدبلوماسية لتعزيز الاستقرار الإقليمي. وأشار الكاتبان اٍلى أنّ انعدام الأمن الاقتصادي والدفاعي الحالي في المنطقة يخلق فرصة لما أسمياه "الدبلوماسية الأميركية المتوحشة".

ويرى المتخصصون الأميركيون في السياسة الخارجية الأميركية، أن واشنطن لم يعد لديها الكثير لتفعله في الشرق الأوسط، لقد استنفدت كل الفرص، وعليها الالتفات إلى الأزمات الداخلية التي تعاني منها، وقد ناقشت في هذا الامر العديد من المقالات التي كتبها "مارتن إنديك" (في صحيفة وول ستريت جورنال) و"مارا كارلين وتمارا كوفمان ويتس" (في مجلة الشؤون الخارجية) بأن الولايات المتحدة لديها القليل من المصالح الحيوية المتبقية ـ تلك التي تستحق الذهاب إلى الحرب ـ في المنطقة. إذًاً يجب على واشنطن "أن تفعل أقل" في الشرق الأوسط، كما قالها كارلين ويتس، وتسليط الضوء على البصمة الأميركية لأنه، كما أشار عنوان مقال إنديك، "لا يستحق المعاناة". فقد ولت الأيام التي قاتل فيها 180.000 جندي أميركي في العراق أو عندما حافظت أسعار النفط المرتفعة على الاقتصاد الأميركي. وكان تفشي جائحة كورونا المرعب، أكبر تذكير حتى الآن بأن الولايات المتحدة عليها إعادة تركيز أولوياتها على التحديات الحالية والمستقبلية الأكثر إلحاحًا.

ثانياً: التريليونات والحروب لم تحقق الاستقرار

لقد أنفقت الولايات المتحدة تريليونات الدولارات للحفاظ على هيمنتها العسكرية في الشرق الأوسط، كما تقول مجلة The National Interest الأميركية. وقد فعلت ذلك تحت مسمى "إرساء الاستقرار في المنطقة وتحقيق أمن الولايات المتحدة". لكن لم يتحقق أي من هذين الهدفين. بل أدت التدخّلات الأميركية في الشرق الأوسط إلى زعزعة استقرار المنطقة مع تحفيز حلفاء الولايات المتحدة على التخلي عن الدبلوماسية الإقليمية وإنفاق المال السياسي في واشنطن لإقناع الولايات المتحدة بخوض الحروب من أجلهم.

لقد تحدث ترامب دائماً عن التكلفة البديلة لحروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وانفاق الأموال على إدارة الأزمات الداخلية بدلاً من خوض حروب خارجية، ولكنه مع ذلك فشل في الأمرين في إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط أو في إدارة أزماته الداخلية المتعددة. لم يضع ترامب حداً لأي من الحروب التي لا تنتهي في الشرق الأوسط بل إنه ذهب نحو أفعال كادت تؤدي إلى حرب كبرى مع اغتيال القائد سليماني ومن ثم قلل من هيبة بلاده بعد الرد الإيراني في عين الأسد دون أن يحرك ساكناً، ما يعكس عدم جهوزية واشنطن لفتح حروب جديدة، وكان من تداعيات ذلك مطالبة العراق، بخروج الجنود الأميركيين من أراضيها، إلا أنه لم يستطع اتخاذ قرار جريء بسحب هذه القوات، فضلاً عن أن اتفاقيته مع طالبان لن تسفر على الأرجح إلا عن خفض عدد القوات الأميركية إلى مستويات أقل.

لقد عجز ترامب عن إنهاء السياسات التصادمية مع إيران، بل اتبع مساراً يضع الولايات المتحدة على شفا حرب جديدة في الشرق الأوسط. واستمر في سياسة العقوبات ضد طهران ولكن بالرغم من مرور 3 سنوات على إعادة فرض العقوبات الأميركية على الاقتصاد الإيراني، فشل ترامب في تحقيق حتى هدف واحد من أهدافه، بل وفي معظم الحالات، عزَّزت طهران من سياساتها التي سعت واشنطن إلى تغييرها.

أمام كل ذلك يرى الأميركيون أنه لا بد من اتباع مسار يخفف احتمالات التصادم، ويخفف من احتمالات الموت بين الجنود الأميركيين، في منطقة لم تعد تشكل الخيار الاستراتيجي الضروري لواشنطن، بل يبدو لديهم أن الانسحاب الجزئي على الأقل يساهم في تخفيف الاحتقان وإرساء الاستقرار وترتيب الأوضاع السياسية بعيداً عن احتمالات الحرب والالتفات أكثر إلى ما تعانيه الولايات المتحدة الأميركية من أزمات داخلية.

لذلك ووفق كل ما تقدم، بات من الضروري أن تبدأ دول الشرق الأوسط بالتفكير الاستراتيجي للتعامل مع واقع ليس فيه الولايات المتحدة الأميركية، سواء كان ذلك بسبب تراجع مكانة أميركا، أو لأن أي رئيس قادم سيكون غير قادر على التورط الخارجي، أو لأن الشعب الأميركي يرفض المغامرات الخارجية ويفضل الحلول الدبلوماسية، وبالتالي على دول المنطقة وخاصةً العربية أن تقبل بالدور الإيراني المتقدم، وتقبل أن العالم حالياً بات ثلاثي الأقطاب تتقاسمه إلى جانب الولايات المتحدة كل من الصين وروسيا.