التجويع للوصول الى التركيع.. لماذا رفض هنية “رشوة” بـ15 مليار دولار لتمويل مشاريع مطار وميناء في قطاع غزة؟ ومن هي الجهات التي تقف خلفها وشروطها؟ وكيف كانت طبيعة الرد؟
عبدالباري عطوان
كشف السيد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس”، ان حركته تلقت عرضا، عبر وسطاء، بتنفيذ مشاريع للبنى التحتية لقطاع غزة، تتضمن مطار وميناء بحري مقابل التخلي عن المقاومة ونزع جميع اسلحتها بما في ذلك الصواريخ، واندماج جناحها العسكري في الشرطة الفلسطينية، تماما مثلما فعلت المنظمة تطبيقا لشروط أوسلو، واكد في حديث لصحيفة قطرية (لوسيل) انه رفض هذا العرض "المسموم” قائلا "ان الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها”.
هذا الكشف يذكرنا بثلاثة عروض مماثلة، جرى عرضها على منظمة التحرير الفلسطينية في ذروة اتفاقات "أوسلو” عام 1993:
الأول: تحويل قطاع غزة الى "سنغافورة أخرى” وتسمينه من خلال طمر عدة كيلومترات من البحر لاستيعاب الكثافة السكانية، وضخ مليارات الدولارات في مشاريع تنموية.
الثاني: ان يوافق الرئيس ياسر عرفات على إقامة كنيس يهودي في باحة المسجد الأقصى ويحصل في المقابل على دولة ومطار وعشرات المليارات من الدولارات، وقد حمل هذا العرض في منتصف التسعينات السيد إسماعيل جيم، وزير خارجية تركيا في حكومة السيدة تانسو تشيلر.
الثالث: ان تتنازل المنظمة عن القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية، وقدم هذا العرض للرئيس الأمريكي بيل كلينتون اثناء مفاوضات كامب ديفيد عام م2000، وجرى "تجميل” هذا العرض بالقول ان السيادة فوق الأرض للفلسطينيين وتحتها للاسرائيليين.
من المؤسف ان مجموعة من المستشارين من انصار مسيرة أوسلو، مارسوا ضغوطا مكثفة على الرئيس عرفات، مدفوعين بأمريكا ودولة الاحتلال لأقناعه بقبول هذه العروض، وتمرير الاتفاقات الاستسلامية المطروحة، ونجحوا في بعضها وفشلوا في البعض الآخر، وساعدهم في ذلك حصار تجويعي واقصائي للمنظمة وقيادتها والشعب الفلسطيني.
بالنسبة للعرض بتحويل قطاع غزة الى سنغافورة، وردم بضعة كيلومترات من البحر، يمكن القول بأنه وجد قبولا لدى الرئيس عرفات، خاصة انه كان مرفقا بإقامة مطار رفح وكسرا للحصار، اما العرضان الآخران، أي التنازل عن السيادة الكاملة على مدينة القدس، وإقامة كنيس في باحة المسجد الأقصى يُسمى هيكل سليمان، ويُرفع عليه العلم الإسرائيلي، فرفضهما، ودفع حياته ثمنا لهذا الرفض لاحقا خاصة بعد ادراكه ان اتفاقات أوسلو كانت مصيدة ولن تقود الى دولة فلسطينية، واشعل فتيل الانتفاضة المسلحة الثانية عام 2000 التي انتهت باستشهاده مسموما.
من المفارقة ان الرئيس عرفات كان لبقا في رده على العرض التركي بإقامة الكنيس المذكور آنفا عندما قال لحامله السيد جيم انه يقبل به اذا قبل به الشعب التركي في استفتاء عام، فما كان من الاخير الا مغادرة الاجتماع بسرعة قاصدا مطار رفح حيث تربض طائرته، وعائدا الى انقرة، وربما كانت آخر طائرة تهبط وتقلع منه بعد تدميره بقصف إسرائيلي.
السيد حسن نصر الله زعيم "حزب الله” قال ان عشرات المليارات معروضه على لبنان مقابل نزع سلاح المقاومة، ووقف ضغوط التجويع والتركيع الحالية، وقال في خطابه قبل الأخير منذ شهر ان الثمن كان نزع سلاح المقاومة حتى تتم تصنيفها في مرحلة لاحقة، واكد ان هذه "الحيلة” لن تنطلي عليه وحاضنته الوطنية، ولن يجوع الشعب اللبناني او يركع وسيظل اصبعه على زناد سلاحه.
إسرائيل استطاعت ان "تدجن” السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، وتحول قوات امنها الى حراس للمستوطنات، وجواسيس لمنع أي مقاومة لاحتلالها، وتهدد حاليا بضم نصف الضفة ومنطقة الاغوار وتريد تحويل الشعب الى خدم ينظفون مراحيض المستوطنين ويقيمون في بانتوستونات معزولة، تماما مثلما كان يفعل العنصريون البيض بالمواطنين السود في جنوب افريقيا، وتخطط الآن لنقل هذه التجربة الى قطاع غزة بحذافيرها، وشراء ذمة المقاومة رجالها وقيادتها ببضعة مليارات من المال الحرام، عبر وسطاء عرب يتبنوا التطبيع معها، ويرون فيها حاميا استراتيجيا.
نحمد الله ان قيادة حركة "حماس” على درجة عالية من الوعي بأهداف عروض الرشوة هذه، والنوايا الحقيقية للذين يقفون خلفها، وابرزها تصفيه القضية الفلسطينية، واستوعبوا دورس اتفاقات أوسلو المهينة والمذلة، ويتجنبون الوقوع في حفرتها، رغم الضغوط التجويعية التي تمارس عليهم وحاضنتهم في القطاع الصامد.
إسرائيل لا تحترم الاتفاقات التي وقعت او ستوقع عليها، ومهما كان حجم التنازلات الفلسطينية، فأين مطار غزة، وأين سنغافورة الجديدة؟ وأين الدولة الفلسطينية المستقلة؟
فلسطين ليست للبيع حتى لو كان الثمن كل ترليونات العالم.. وستعود كلها الى أهلها، والنصر صبر ساعة.