كلمـة السـر فـي فيينــا هـي “الشعـب”..
أحمد الشرقاوي
كما كان متوقعا، لم تسفر مفاوضات فيينا عن رؤية حقيقية مشتركة للحل في سورية إلا في ما له علاقة بالعناوين العامة التي تدخل في إطار نتائج الأزمة لا مسبباتها، لأن الخلاف لا يزال كبيرا في الجوهر بين الرؤية الأمريكية – "السعودية” من جهة والرؤية الروسية – الإيرانية من جهة أخرى..
بدليل أن الثلاثي "السعودية” وقطر وتركيا، أصدروا بيانا مباشرة عقب الاجتماع يقول بصريح العبارة، أنه إذا لم تفضي العملية السياسية إلى حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة ورحيل الرئيس بشار الأسد فلا يمكن الحديث عن حل في سورية..
وبالتالي، لا تزال هذه الأدوات تلعب دور الشرطي السيئ بإصرارها على رحيل الأسد بالمفاوضات أو القوة العسكرية كما يطيب للوزير الجبير التذكير بذلك في كل إطلالة إعلامية، فيما تلعب واشنطن دور الشرطي الطيب الذي يبدي مرونة مشبوهة، ويحاول بالخديعة إظهار نوع من التوافق مع الجانب الروسي والإيراني حول الثوابت التي ينطلقان منها في رؤيتهما للحل، وهو يراهن في العمق على مرحلة نقاش التفاصيل حيث تكمن الشياطين، ويعتقد أن بإمكانه الحصول من خلالها على ما لم يستطع تحقيقه بالإرهاب..
وعليه، نستطيع القول، أن ما كانت ترغب فيه واشنطن من اجتماع فيينا، هو استمزاج الموقف الروسي والموقف الإيراني ومدى قابليتهما لإبداء الليونية للتوصل إلى حل سياسي يرضي جميع الأطراف، وكأن سورية كعكة مستباحة يجب اقتسامها إلى حصص متساوية من جهة، ومن جهة ثانية، الالتفاف على روسيا لتوقف حربها على الإرهاب، والتي إن استمرت على الوثيرة الحالية فستنزع من يد واشنطن وأدواتها الورقة الوحيدة التي يوظفونها ميدانيا من أجل الحصول على أهدافهم الانتهازية حتى لو أدى الأمر إلى تدمير مؤسسات الدولة السورية لتقسيمها وتمزيق مجتمعها..
من هنا يفهم سبب قرار واشنطن إرسال عشرات المستشارين العسكريين إلى سورية لتأطير ما قالت عنها أنها "جماعات معارضة” لمحاربة "داعش”، في ما الحقيقة أن واشنطن سارعت لوضع قدمها على الأرض السورية ولو رمزيان لحماية المجموعات المسلحة من تطالها التصفية بالضربات الجوية الروسية وهجوم الجيش العربي السوري وحلفائه لتطهير الأرض من عصابات الإجرام الأمريكية والسعودية..
وهو الأمر الذي دفع الوزير لافروف لتنبيه الإدارة الأمريكية بأن دخولها الأراضي السورية من دون موافقة دمشق عمل غير شرعي، وأن عليها التنسيق معها لتجنب أي احتكاك بين القوات، وهو الأمر الذي ترفضه وواشنطن بذريعة أن التنسيق في هذا الشأن سيمكن الحكومة السورية من الحصول على معلومات حول مواقع تواجد قوى المعارضة فتستغلها لتصفيتها، وهي طريقة مفضوحة من قبل أمريكا للاستمرار في توظيف الإرهاب كورقة ضغط، أو لنقل، كمسمار جحا تدقه في الأٍرض السورية لتفاوض به كورقة سياسية..
وفي نفس السياق، أمر الرئيس بوتين قواه بتكثير الضربات الجوية بمستوى 300 طلعة في اليوم الواحد، وطالب معامل الذخيرة في روسيا لمضاعفة إنتاجها من الصواريخ والذخيرة التي تتطلبها الحملة العسكرية في سورية، ما يؤشر إلى أن أبوعلي يريد استباق التطورات لقطع الطريق على واشنطن حتى لا تسيطر على الأرض بذرائع زائفة.
أما بالنسبة لاجتماعات (فيينا – 1) باعتبارها محطة أولى ستتلوها محطة ثانية بعد أسبوعين ومحطات أخرى لاحقا في إطار ما يمكن تسميته بقطار التسورية، فمن يقرأ العناوين الرئيسة لبيان "فيينا”، لا يسعه إلا أن يتفاءل بحذر شديد بتوافق القوى الكبرى على الخطوط العامة للحل في سورية، والتي يمكن تلخيصها في العناوين التفصيلية التالية:
-إتفاق على محاربة الإرهاب لما أصبح يمثله من خطورة على المنطقة والعالم.
-ضرورة وقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة لضمان نجاح العملية السياسية.
-إتفاق على الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وعدم تغيير طبيعة الدولية العلمانية، وحق الشعب السوري في تقرير مصيره، والذهاب إلى مفاوضات سياسية بين الحكومة والمعارضة تفضي إلى صياغة دستور جديد يعرض على استفتاء شعبي، وانتخابات برلمانية تؤدي إلى تشكيل حكومة ديمقراطية، تعقبها انتخابات رئاسية، على أن تشرف الأمم المتحدة على العملية السياسية برمتها.
لكن في التفاصيل بالنسبة لعنوان محاربة الإرهاب مثلا، هناك خلاف عميق بين الأطراف حول تعريف من هو الإرهابي من المعارض المسلح الذي يقاتل من أجل إسقاط النظام، وهو الأمر الذي اقترحت له روسيا معيارا محددا يقول، بوجوب الأخذ بتصنيف الأمم المتحدة لـ”داعش” و”النصرة” كجماعات إرهابية، وإضافة جماعات أخرى تمارس التوحش في سورية وأسستها القاعدة لقائمة التنظيمات المستهدفة بالحملة العسكرية، وأن على كل من يرغب بالدخول في العملية السياسية أن يلقي السلاح وينضم للمفاوضات، ومن يرفض يعتبر إرهابيا تجب محاربته..
غير أن الاقتراح الروسي الذكي وإن كان يبدو منطقيا لجهة الفرز بين السوريين والأغراب الذين لا يمكن أن يكونوا طرفا في أية عملية سياسية، إلا أن القوى المتآمرة ستعمل على استغلاله من وجهين: الأول، محاولة تعويم الفصائل الإرهابية المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين لدمجهم في إطار ما يسمى بـ”الجيش الحر” بمعية المنشقين عن الجيش العربي السوري يقودهم العقيد الفار من العدالة بتهمة الخيانة مناف طلاس وفق ما تخطط له غرفة العمليات في تركيا..
والثاني، اشتراط خروج كل الأغراب من سورية، إرهابيين ومقاتلين أجانب، ما يعني المستشارين الإيرانيين والمقاتلين العراقيين ومن حزب الله أيضا، بالرغم من أن الفرق واضح بين الإرهابي ومن يحارب الإرهاب..
وهو الأمر الذي تدركه روسيا وإيران، لذلك يصران على أن تتم الحرب على الإرهاب في إطار حلف دولي تحت مظلة الأمم المتحدة، وأن يكون الجيش العربي السوري وحلفائه هم من يحاربون الإرهاب على الأرض، فيما تتولى الدول الكبرى القتال من الجو، ويتم تفعيل قرار الأمم المتحدة الخاص بتجفيف منابع الإرهاب فكرا وتجييشا وتمويلا وتسليحا، وهذه مهمة تتحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية الضغط على أدواتها ليكفوا عن توظيف الإرهاب من أجل تحقيق أهداف سياسية غير مشروعة في سورية.
ويتبين هنا بوضوح، رغبة روسيا بصفة خاصة في إعادة الاعتبار للأمم المتحدة في حل الأزمات الدولية، من خلال تفعيل دروها في سورية استنادا إلى شرعة الأمم والقانون الدولي لتجنب الانزلاق إلى حرب لا تحمد عقباها بين الدول العظمى، لأن لا أحد يستطيع إلغاء الآخر أو فرض رؤيته بالقوة.
من هنا أهمية العنوان الثاني المتعلق بوقف إطلاق النار، والذي اقترحته أمريكا لأنه من وجهة نظرها يسحب من روسية ورقة فرض حل سياسي يناسبها بالقوة العسكرية، وهذا غير صحيح بالمطلق، لأن روسيا دخلت إلى سورية بطريقة شرعية، ولن تنهي حملتها العسكرية إلا إذا تمت هزيمة الإرهاب وأثمرت العملية السياسية حلا يحافظ على الجغرافية السورية، ومؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش العربي السوري، ونظام ديمقراطي يحظى بقبول الشعب الذي هو سيد نفسه، وفي هذا، لا مكان لأحلام أمريكا أو أوهام تركيا و”السعودية وقطر.
أما العنوان السياسي العام، فهناك خلافات جوهرية بين الأطراف حول عديد التفاصيل المرتبطة به، وعلى رأسها ما يتعلق بمصير الأسد، والذي تطالب "السعودية” وتركيا وقطر ومعهم فرنسا وبريطانيا وألمانيا بأن يظل لفترة انتقالية لا تتجاوز 6 أشهر، فيما تقترح أمريكا أن يبقى لفترة أطول لا تتجاوز 18 شهرا، أما روسيا وإيران فترفضان جملة وتفصيلا الحديث عن مستقبل الأسد السياسي، ويصران على أنه شأن يقرره الشعب السوري دون سواه.
وحتى لا تضيع الحقيقة تحت غبار التصريحات والمواقف السياسية المضللة، يجدر بنا التذكير بالمناسبة، أن الصراع في وعلى سورية، لا علاقة له بحرية أو ديمقراطية ولا من يحزنون، وآخر هم قوى الاستكبار العالمية والإقليمية هو مصلحة الشعب السوري المفترى عليها..
كما وأن ترويج "السعودية” لما تقول أنها حربا مقدسة ضد إيران "الشيعية” التي تحتل سورية وتتمدد في المنطقة، لا صحة ولا أساس لها، ولا علاقة للأمر بالعروبة ولا بمظلومية "السنة” المختلقة التي تتاجر بها في سوق النخاسة السياسية..
كل ما في الأمر، أن سورية تمثل بالنسبة للجميع ضرورة استراتيجية كبرى من الناحية الاقتصادية والسياسية، فبالنسبة للأولى، تعتبر سورية الممر الإلزامي لخطوط النفط والغاز السعودي والقطري للوصول إلى أوروبا عبر تركيا، ما سيمكن أمريكا من استبدال الغاز الروسي بغاز أدواتها وحرمان موسكو من دخل يوازي 380 مليار دولار سنوية، ولو نجح الأمر لتلقت موسكو ضربة قاسمة لن تقوم بعدها كدولة وطنية فأحرى دولة عظمى، وهذا هو السبب الحقيقي لدخول أبو علي بوتين الحرب في سورية من ضمن أسباب أخرى يأتي الإرهاب في مقدمتها باعتباره أداة أمريكية لتدمير سورية وروسيا والعراق وإيران أيضا.
أما الهدف السياسي، فهو إنهاء الدور السوري الممانع، ونقل سورية من موقع محور المقاومة إلى موقع محور الانبطاح والاستسلام لينتصر المشروع الإمبريالي فتسود الهيمنة الصهيو – أمريكية على المنطقة.
هذه هي خلاصة الحكاية، والحرب لن تنهي قريبا، فهي للتو بدأت، على المستوى العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي والإعلامي والثقافي أيضا، وسنرى عديد المفاجآت في القادم من الأيام باستثناء الصدام العسكري بين أمريكا وروسيا، لأن هدف التنسيق بين الكبار هو أن يتحاربوا بالوكالة.
ومعضلة أمريكا وحلفائها وأدواتها اليوم، تكمن في أنهم فشلوا في إسقاط الأسد ليس بالإرهاب ولن يكون يمقدورهم فعل ذلك بالعملية السياسية من مدخل الديمقراطية كما يتوهمون، وبالتالي، لقد سقطت أوراقهم الواحدة تلو الأخرى أمام كلمة السر التي رفعا الرئيس الأسد في وجه العالم برهانه على شعبه، وأصبح بالتالي إسقاطه يمر حتما من إسقاط سورية دولة ومؤسسات وشعبا، وهو أمر بعيد المنال..
لأن دخول روسيا اليوم على خط الصراع في سورية زاد من تعقيد الأمور بالنسبة لمحور الشر، خصوصا بعد أن أعلن الرئيس أبو علي بوتين للعالم، أن دفاعه عن دمشق في سورية سيجنبه الدفاع عن روسيا وراء أسوار موسكو..
وهذا يعني، أنه من مخاض الحرب في سورية، سيولد نظام إقليمي وعالمي جديد، يتجاوز أوهام أوباما التي دفعته لنشر الفوضى الدموية الهدامة التي جرت عليه وعلى بلاده لعنة الشعوب وكراهيتها..