الطيش والعنجهية الفارغة سمات بارزة في سياسات إردوغان
عقيل الشيخ حسين
المنطقة العازلة التي يريدها إردوغان كخطوة على طريق تحقيق حلمه الهستيري بإسقاط سوريا لا تحظى بقبول واشنطن الخائفة من تورط جديد بعد الهزائم التي منيت بها في المنطقة. والمشروع الصهيو-أميركي الذي فشل بإسقاط سوريا ومحور المقاومة لا يجد غضاضة، عوضاً عن ذلك في إسقاط تركيا نفسها. إنها حرب الجميع على الجميع داخل معسكر أعداء سوريا.
ربما يكون إردوغان قد ارتاع وهو يراقب عملية التحشيد التي تقودها واشنطن من خلال تشكيل الائتلاف الدولي ضد " داعش". وارتياعه هذا مرده إلى خطئه في التشخيص وظنه أن "داعش" التي علقت عليها تركيا آمالاً عريضة وخصتها، بالتوافق الكامل مع واشنطن، بمعاملة تفضيلية على مستوى التمويل والإيواء والتدريب والتسليح، لن تلبث أن تتبخر تحت الضربات الجوية والصاروخية.
توافق أميركي-تركي على تمكين "داعش" من اجتياح عين العرب
لكنه، و بعد شهر كامل من عمليات القصف التي لم تحل دون استمرار "داعش" في التوسع السريع، لا يمكن إلا أن يكون قد راجع قناعاته وكون فهماً جديداً يساعده في الاطمئنان على مصير هذا التنظيم الإرهابي. خصوصاً مع تفجر قضية "عين العرب" (كوباني) واتضاح الموقف الأميركي منها كما عبرت عنه تصريحات جون كيري المتكررة التي أكد فيها أن منع سقوط المدينة لا يدخل في إطار الاستراتيجية الأميركية.
الغرب بصدد إجبار تركيا على الدخول بـ "مفردها" في الحرب على سوريا
تلك التصريحات من جهة، وليس فقط عدم التدخل التركي لوقف تقدم "داعش"، بل خصوصاً قيام حكومة إردوغان بمنع المتطوعين الأكراد القادمين من تركيا من الوصول إلى "عين العرب" للمشاركة في الدفاع عنها، من جهة أخرى، كل ذلك- وبالرغم من الحرب العالمية المزعومة التي تقودها واشنطن ضد "داعش"، هو بمثابة شواهد على رغبة كل من واشنطن وأنقرة في تمكين "داعش" من إسقاط المدينة ومن ارتكاب الفظائع المعتادة بحق المدافعين عنها وبحق المدنيين الذين لم يتمكنوا أو لم يشاؤوا النزوح عنها.
غير أن التوافق التام بين أنقرة وواشنطن حول هذه المسألة، يتحول -في ظل الخلافات التي يتسع مداها بين الأطراف المشاركة في الحرب على سوريا- إلى اختلاف في وجهات النظر بخصوص مرحلة ما بعد سقوط "عين العرب"، وما يعنيه ذلك من وصول جحافل "داعش" إلى المزيد من المناطق المتاخمة للحدود التركية.
تصاعد المواجهات بين قوى الأمن التركية والأكراد في جميع أنحاء تركيا
تركيا من جهتها ترى في سقوط "عين العرب"، إضافة إلى ما يشكله ذلك من تعزيز لقوة "داعش" التي أصبحت الحصان الرئيسي في الحرب على سوريا، عقاباً للأكراد السوريين الرافضين لعروض الانضمام إلى صف أعداء سوريا.
كما أن انضمام تركيا الممكن إلى التحالف المزعوم ضد "داعش" يمنحها فرصة التظاهر بأنها قد أصبحت واقعة تحت التهديد الداعشي، ويقوي حجتها في المطالبة بإقامة منطقة عازلة، ومنطقة حظر طيران تبعد هذا التهديد عن حدودها. وتسمح في الوقت نفسه بمواصلة المسعى الهادف إلى تحقيق حلم إردوغان الأكبر المتمثل بإسقاط سوريا في أسرع وقت ممكن.
لكن الأميركيين الحريصين بدورهم على إسقاط سوريا، والمتيقنين من استحالة تحقيق هذا الهدف على الأقل في الإطار المنظور، ينظرون بلا شك إلى فكرة إردوغان هذه والتي لم تحظ إلا بإعجاب فرنسوا هولند، على أنها طائشة وغبية. فهي تتطلب موافقة مجلس الأمن الذي عجز أكثر من مرة عن اتخاذ قرار بهذا الشأن بسبب الفيتو الروسي-الصيني. ثم إن واشنطن المعروفة بقدرتها على تجاوز مجلس الأمن والقانون الدولي، لم تعد قادرة على الشروع بعمل عدواني مباشر ضد سوريا أو غيرها لعلمها بأن ذلك سيجرها إلى التورط في حرب جديدة لا يمكنها إلا أن تكون أشد وبالاً عليها من جميع الحروب التي خسرتها خلال العقد الأخير في أفغانستان والعراق ولبنان وغزة واليمن...
انتقال الحرب الأهلية إلى الداخل التركي
لذا، وبسبب الصعوبات التي تعترض (والمدة الطويلة التي يتطلبها) تدريب ما يسمى بالمعارضة السورية أو تكوين جيوش عربية و/أو إسلامية للتدخل في سوريا تحت ستار محاربة "داعش"، تفضل واشنطن أن تتولى تركيا بالذات تنفيذ هذه المهمة طوعاً أو كرهاً... فتركيا تمتلك ثاني أقوى جيش في الناتو، ولا بأس بزجها في حروب تفضي إلى إضعافها وإلحاقها بالبلدان التي يهدف مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى تمزيقها وتدميرها.
وبالطبع، فإن تركيا ترفض الدخول بـ "مفردها" في مثل هذه الحروب. لكن أحداً لن يطلب رأيها في اللحظة التي ستعطى فيها الأوامر لـ "داعش" ولخلاياها النائمة على امتداد الأراضي التركية بمباشرة الهجوم عليها.
وحتى لو تجاوزنا طيش إردوغان في رهانه على إسقاط سوريا، أو في الركون إلى ما يظنه ولاءً مطلقاً له من قبل "داعش"، فإن عنجهيته وعدم تقديره للعواقب في تعامله مع القضية الكردية، قد أدخلا تركيا المثقلة بالمشاكل في أتون حرب أهلية متصاعدة. فمنذ السابع من الشهر الحالي، توقف العمل بالهدنة المعقودة منذ عام ونصف مع حزب العمال الكردستاني (بي. كا. كا.) وتحولت تركيا كلها، وليس فقط مناطقها الكردية، إلى مسرح واسع لأعمال عنف "غير مسبوقة" بحسب تعبير راديو فرنس-انترناسيونال. مئات القتلى والجرحى وما لا يحصى من مظاهر الدمار والفوضى في اسطنبول وأنقرة وإزمير وغيرها... مع التذكير بأن المشكلة الكردية ليست غير واحدة من مشاكل أخرى متفاقمة تثقل كاهل إردوغان وحكومته.