الأزمة الاوكرانية تتفاقم ولا ضوء في آخر النفق
ككل أزمة في العالم، ليست الازمة الاوكرانية وليدة ساعتها، ولا هي نتيجة انفجار مشكلة معينة وحسب، بل هي نتيجة تراكم عدد من المشكلات التي لم تجد لها حلا في وقتها ووصلت الى نقطة الانفجار. بالاضافة الى ذلك، فإن خلفية الوضع الدولي لا تميل نحو الاستقرار.
ومن الواضح في الوقت الراهن انه ليس كل الاطراف المشاركة بهذه الدرجة او تلك في الازمة الاوكرانية لها مصلحة ان يوجد حل للمشكلة وان يظهر في النهاية ضوء في آخر النفق. ولا يزال من المبكر الاجابة عن الاسئلة التي تطرحها الازمة، والمتعلقة بالسلم الداخلي لاوكرانيا، وبالبنية المستقبلية لنظام الامن الاوروبي بشكل عام.
الاستخفاف غير المبرر بروسيا
ومن الواضح ان احد اسباب الازمة الجارية هو استخفاف الولايات المتحدة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي بدور روسيا في نطاق بلدان الاتحاد السوفياتي السابق. وقد اظهرت الازمة ان موسكو ليست راضية عن تركيز الناتو على اشراك تلك البلدان في نظام الامن الاوروبي ضمن النفوذ الغربي وضد روسيا. ومن الملاحظ ايضا ان "مجلس روسيا ـ الناتو” وغيره من الآليات العالمية التي أوجدت لاجل تجنب الوصول الى اصطدام المصالح، بدا انها لم تكن كافية او انه لم يجر استخدامها. ولقد تدخلت في النزاع "منظمة الامن والتنمية الاوروبية”، التي كانت تطمح لان تضطلع بدور مراقب غير متحيز وان تساهم في التوصل الى حلول تسووية مقبولة من الجميع. ولكنها هي ايضا لم تتوصل الى تطبيع الوضع. ولهذا فإن السؤال الاول، الذي لا يوجد جواب له حتى الان هو: كيف يخطط الغرب لما بعد، كي يشرك روسيا في نظام الامن الاوروبي في المستقبل.
ولا شك ان احد شروط استقرار الوضع، هو ان تؤخذ بالحسبان بشكل كافٍ مصالح جميع الاطراف وان يجري تثبيت الالتزامات المتبادلة في وثائق دولية ذات صلة.
الغرب غير متجانس
كما اظهرت الازمة ان الغرب ليس كتلة متجانسة، موجهة ضد روسيا، كما كان الامر خلال مرحلة الحرب الباردة. اذ يبدو للعيان اختلاف واضح في المصالح بين اوروبا والولايات المتحدة الاميركية.
العجز الاوروبي
فبالنسبة للاتحاد الاوروبي يجري هذا النزاع على حدوده مباشرة، ولهذا فإن البلدان الاوروبية لها مصلحة مباشرة في ايجاد حل سريع له، وفي تأمين الاستقرار العام في اوكرانيا، وفي اجراء حوار كامل مع روسيا. ومن العوامل الاخرى التي لها تأثير جدي في سياسة البلدان الاوروبية حيال تسوية الازمة الاوكرانية: ضرورة دعم اقتصادات البلدان الاوروبية والتغلب على اثار ازمة المديونية في منطقة اليورو، والارتباط بامدادات الغاز الروسي، وكذلك مشكلات التنمية الداخلية في منطقة اليورو، التي ظهرت بوضوح في مجرى انتخابات ايار الماضي للبرلمان الاوروبي.
والاتحاد الاوروبي يعجز حتى الان عن حل هذه المشكلات، وهو ما ينعكس على عجزه عن المشاركة الفعالة في حل الازمة الاوكرانية.
التصعيد الاميركي
وي هذه الظروف فإن دعوة المحافظين الاميركيين الى زيادة النفقات العسكرية واتباع سياسة متشددة في العلاقات مع روسيا، تؤدي الى تعقيد بل والى القضاء على امكانية حل القضايا الملحة التي تواجه اليوم اوروبا. وكل ذلك يشكل دافعا للاوروبيين لبذل الجهود لتطبيع الاوضاع في اوكرانيا وللبحث عن طرق تسوية الازمة وتحسين العلاقات مع روسيا.
اما بالنسبة لواشنطن فإن الازمة الاوكرانية هي احدى مشكلات النصف الغربي للكرة الارضية، التي تجد واشنطن نفسها ملزمة على اخذ دور فيها. ولذلك فهي تنتهج سياسة اكثر تشددا من الاوروبيين حيال روسيا للحصول منها على تنازلات لتسوية الوضع في اوكرانيا. وفي الوقت ذاته تتظاهر الولايات المتحدة رياءً بأنه ليس لها مصلحة في اطالة امد الازمة ومفاقمتها.
اميركا تهرب الى الامام
والوضع الحالي المشحون لا يحمل لواشنطن انتصارات، بقدر ما يحمل مصاعب جديدة. فالمشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة الاميركية منذ ما قبل الاحداث في اوكرانيا، والتي كانت توليها الاولوية في اهتماماتها، لا تزال كما في السابق بعيدة عن الحل. والمواقف العدائية من موسكو، التي يدعو المحافظون الاميركيون ادارة اوباما الى عزلها، لا تساعد على حل بل على العكس تعرقل حل المعضلات، التي تواجهها واشنطن خارج حدود القارة الاوروبية، والتي لم يختف اي منها مع اندلاع الازمة الاوكرانية. ومن هذه المعضلات: مكافحة الارهاب، تطبيع الاوضاع في افغانستان بعد سحب قوات الناتو من هناك، الملف النووي الايراني، اقامة حوار مع الصين وغيرها من الدول الاعضاء في مجموعة "بريكس”. ان التعاون مع روسيا يساعد على ايجاد حلول لتلك المعضلات، اما سياسة عزلها فستعيق حتما تلك الحلول.
وبالاضافة الى ذلك فمن الواضح ان اميركا هي التي ستكون ملزمة بأن تأخذ على عاتقها زيادة النفقات العسكرية، لان كل الدلائل تشير ان الدول الاوروبية لا ترغب ان تزيد بشكل ملحوظ نفقاتها العسكرية. وفي هذه الاحوال، يتضح تماما لماذا تريد واشنطن ان تشرك من جديد اوروبا في سباق التسلح وأن تؤخر حل الازمة الاوكرانية.
روسيا مع حل الازمة
وانه لمن الواضح ان روسيا لها مصلحة مباشرة في حل هذا النزاع الناشب على حدودها، وكذلك في ان لا تتكرر مثل هذه الازمات. ان روسيا تقدم المساعدات الاقتصادية وغيرها لاوكرانيا، وتعمل على حل الازمة الاوكرانية الحالية، من ضمن التوجه نحو تحسين وتطوير العلاقات الروسية مع البلدان السوفياتية السابقة، وهذا الخط هو اولوية بالنسبة للسياسة الخارجية الروسية. والازمة الحالية ستجد انعكاسها على العلاقات الروسية ـ الاوكرانية لفترة طويلة. كما انها ستؤثر على علاقات روسيا مع البلدان المجاورة الاخرى. علما ان روسيا تعمل على ان يحيط بها طوق من الدول الصديقة، من البلدان السوفياتية السابقة، ولهذا الهدف فهي تنفق مبالغ طائلة من ميزانية الدولة. والعلاقات مع اوكرانيا هي مثال على هذا التوجه.
لا ضوء في نهاية النفق
ان احداث اوكرانيا قد تسببت الى الان بالمعاناة القاسية وبمقتل وجرح الالاف في صفوف السكان المدنيين، من ذوي الاصول الروسية والاوكرانية. والانهيار البطيء لتقاليد العلاقات السوفياتية السابقة هو في غير مصلحة لا روسيا ولا اوكرانيا، كما انه لا ينسجم مع القيم الحضارية لاوروبا.
وإن العديد من المسائل التي طرحتها الازمة الاوكرانية، والتي يتعلق بها مستقبل نظام الامن الاوروبي، لم تجد لها جوابا حتى الان.