الشرق الأوسط في مهب المؤتمرات الدولية
سركيس أبوزيد
انعقدت في الأيام الماضية ثلاثة مؤتمرات دولية، منفصلة في عناوينها ومساراتها وجدول أعمالها، ولكنها في خيوطها وخلفياتها متداخلة ومتشابكة وترسم في مجموعها ومحصلتها العامة مسار الوضع في الشرق الأوسط للعام 2019 الذي يُعد عاما مفصليا وحاسما.
فمؤخراً انطلقت أعمال "مؤتمر وارسو الدولي" برعاية أميركية، تحت عنوان: "تعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط".
المؤتمر مخصص للشرق الأوسط وتناول الأزمات الإقليمية والتعامل الدولي معها، مثل الأمن والتهديدات السيبرانية، وتطوير الصواريخ، والإرهاب والتمويل غير المشروع له، وحقوق الإنسان، واللاجئين، وقضايا مختلفة. وتمت مناقشة الوضع في كل من سوريا واليمن.
فكرة مؤتمر وارسو التي اقترحتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب كانت تهدف في البداية الى تشكيل تحالف ضد إيران يوازي التحالف الدولي ضد "داعش"، الذي يضم حاليا 79 دولة، ودفع الدول المشاركة إلى تبني مواقف الإدارة الأميركية من القضايا المطروحة، إضافة إلى خلق حلف ناتو عربي موسّع. لكن، فيما بعد أعلن مسؤولون أميركيون وبولنديون أن المؤتمر ليس مؤتمرا ضد إيران وليس لبناء تحالف ضدها، وهو مخصص لمناقشة قضايا مختلفة تتعلق بالسلام والأمن في الشرق الأوسط.
لكن انعقاد المؤتمر في وارسو تحديدا ينطوي على رسالة أميركية إلى روسيا تذكرها فيها بـ"حلف وارسو" الذي تهاوى بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق، وهي رسالة تتضمن تحديا أميركيا تجاه النهوض الروسي الواضح، ومحاولة للتأثير في التوترات الدولية القائمة بينهما، تلك التي وصلت إلى القارة اللاتينية. كما أن التحرك الأميركي، عبر هذا المؤتمر، يأتي في إطار نسف الدعم الأوروبي للاتفاق النووي الذي انسحبت منه واشنطن من جانب واحد في العام الماضي. صحيح أن أوروبا لديها مشكلات متعددة مع النظام الإيراني، إلا أن الموقف الأوروبي حول الاتفاق النووي يختلف جذريا عن الموقف الأميركي.
في نفس الوقت يمثل مؤتمر وارسو نقطة تحوّل في المواجهة الأميركية - الإيرانية، حيث تحاول من خلاله واشنطن إيجاد طريقة للحد من توسع القوة الإيرانية وتزايد نفوذها في المنطقة. وإذا كان الهدف الأول والمعلن لـ"مؤتمر وارسو" هو "إيران"، فإن الهدف الآخر غير المعلن هو تحريك "صفقة القرن" وتهيئة المسرح الإقليمي لها وتسويقها من الباب الاقتصادي هذه المرة. أما الشق السياسي منها، فإن الكشف عنه مؤجل الى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية، والى ما بعد إدخال تعديلات عليها لتصبح متوازنة ومقبولة من العرب والفلسطينيين.
مؤتمر وارسو الذي صيغ ونُظّم من خلفية أن يشكل نقطة تحوّل تاريخية لقيام تحالف دولي إقليمي ضد إيران، في عداده إسرائيل ودول عربية، لم يكن ناجحا في إرساء دعائم صلبة وعملية لهذا التحالف. فمن جهة افتقد التحالف الى وجود قوى دولية مهمة مثل روسيا والصين، والى وجود دعم أوروبي واضح وقوي في ظل تمثيل خجول ومتدنٍّ الى ما دون المستوى الوزاري. ومن جهة ثانية، ذهب المؤتمر في اتجاهين أرادهما نتنياهو: إعطاء دفع لعملية التطبيع مع دول خليجية، وتوظيف المؤتمر في معركته الانتخابية داخل "إسرائيل"، عبر تسجيل نقاط ونجاحات دبلوماسية وخارجية في وقت يسعى خصومه فيه الى محاربته بملفات فساد وسياسات داخلية فاشلة.
فالمعركة الانتخابية في "إسرائيل" وصلت ذروتها وبدأ عدها العكسي، مع إغلاق باب الترشح لانتخابات الكنيست لتبدأ معركة انتخابية ساخنة لمدة 45 يوما، أي حتى يوم الانتخابات المقرر في التاسع من نيسان المقبل. وما يميز هذه الانتخابات أنها تجري في ظروف استثنائية داخلية وإقليمية، وتوصف بأنها الأهم منذ عقود، وأهميتها تكمن في تأثيرها على التوجهات والخيارات السياسية للمرحلة، وخصوصا الموقف من خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط، أو ما بات يُعرف بـ"صفقة القرن".
ونتنياهو يخوض معركة مصيرية وصعبة، وهو محور الانتخابات التي تكاد أن تكون استفتاء عليه، فالانتخابات تحدد مصير نتنياهو ومستقبله السياسي، وسواء ربح الانتخابات وبقي رئيسا للحكومة أو خسرها وحل آخر محله فهو الذي يحدد مصير خطة ترامب للشرق الأوسط، أي "صفقة القرن".
سوتشي
أما مؤتمر القمة في سوتشي (بوتين - روحاني - أردوغان) فقد أظهر توافقا في رفض السياسة الأميركية في المنطقة، وفي اعتبار الانسحاب الأميركي من سوريا خطوة إيجابية، ولكنه أظهر تباينا في التعاطي مع مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي غير الواضح حتى الآن. الاختلاف في الأولويات برز على صعيد إدلب والمنطقة العازلة، وبينما أصر بوتين على أن يملأ الجيش السوري الفراغ وإعطاء الحق للأكراد بحصة في السلطة، أكد أردوغان أن المنطقة تقع تحت نفوذه وحده، وأنه قادر على إدارتها لمنع إعطاء أي دور للإرهابيين الأكراد. أما روحاني، فقد عرض الوساطة بين أنقرة ودمشق.
ميونيخ
في المقابل نجد أن مؤتمر ميونيخ للأمن يقع في سياق آخر، حيث تصدرت فيه التوترات الأمنية العالمية بمشاركة أكثر من 30 رئيس دولة وحكومة و 80 وزيرا للدفاع والخارجية. هذا المؤتمر انعقد في ظل تطورات دراماتيكية زادت التباين داخل التحالف الغربي وعمّقت الانقسام بين الأميركيين والأوروبيين الذين لم يخفوا استياءهم من سياسة ترامب الاستفزازية وقلقهم بشأن وضع العلاقة عبر المحيط الأطلسي.
وقبيل انعقاد المؤتمر، سلط تقرير ميونيخ للأمن 2019 الضوء على الشرق الأوسط، مشيرا الى عدم لعب الاتحاد الأوروبي أي دور في مستقبل سوريا، بعد إعلان الولايات المتحدة الانسحاب من سوريا، والدور الكبير لكل من روسيا وإيران وتركيا فيها. وحذر التقرير من خطر اشتباك في الشرق الأوسط بين السعودية وأميركا وإسرائيل وإيران، وأن الاشتباك قد يندلع في اليمن أو الخليج العربي أو العراق.
أخيراً، يمكن القول، إن الأميركيين، أخذوا مؤتمر "وارسو" في اتجاه آخر هو التسويق لـ"صفقة القرن"، وتحديدا تسويق أفكار غاريد كونشير صهر ترامب ومستشاره للشرق الأوسط، بالاضافة الى تأمين تغطية الانسحاب الأميركي من سوريا وأفغانستان، وتطمين الحلفاء في المنطقة بأن أميركا لن تتخلى عنهم. والمواقف الأخيرة للرئيس ترامب تظهر أن أميركا تريد التوجه نحو شكل جديد من الحروب عبر سحب قواتها من الأرض واتباع سياسة الحروب بالوكالة والعقوبات الاقتصادية والحصار، في وقت رأت موسكو في مؤتمر "وارسو" مشروعا أميركيا لإقامة ائتلاف جديد من بلدان أوروبية وشرق أوسطية تحت قيادة أميركية لتطويق طموحات وسياسات موسكو الخارجية.
يحدث هذا كله في ظل الانهزام والرضوخ العربي وتطبيع بعض الدول العربية مع "إسرائيل" وسعي ترامب إلى تصفية القضية الفلسطينية وتمرير "صفقة القرن".