الثورة الإسلامية في إيران عزّزت الحضور الشيعي..وهذه قواعد "عصر الشيعة"
قال الكاتب والمفكر العراقي الدكتور، علي المؤمن، في حوار ساخن ومثير مع "المسلة"، السبت، 16 شباط، 2019، "أن تأثير الثورة الإسلامية الإيرانية وشخصية الإمام الخميني كان كبيراً على الأوضاع في العراق، والشرق الأوسط، لا سيما بعد مباركة الشهيد محمد باقر الصدر لها".
"المسلة" تنشر نص الحوار مع الدكتور علي المؤمن:
- يتهم بعض المراقبين الدكتور علي المؤمن بأن كتاباته ولغته طائفية. كيف ترد؟
ـ إطلاقاً، أنا أمقت الطائفية والطائفيين، لأني ممن اكتوى طويلاً بنار الطائفية البغيضة، فلا يمكن للعاقل أن يبغض ظاهرة ويمارسها. ولكن ينبغي أن أؤكد هنا بأن لغة الباحث تختلف عن لغة السياسي والدبلوماسي والصحفي، فأنا باحث متخصص، ولست سياسياً بحاجة الى رضا الآخرين أو أهدف الى استفزازهم، أو دبلوماسياً أتكلم بلغة ضبابية عامة. و بالتالي، فأنا الباحث العلمي يسمي الأشياء بمسمياتها، ويصف الواقع ويحلله كما هو، دون مواربة وتسطيح واستغفال لنفسه وللآخرين. والباحث لا يعبر على الحقائق، ولا يتجاوز المصطلحات، ولا يزيف المفاهيم.
ولذلك أعمد في كتاباتي ولغتي الى الابتعاد عن لغة الأوهام والشعارات الطوباوية التي مللنا حضورها في فضاءاتنا طيلة عشرات السنين من حكم الأنظمة الطائفية والعنصرية.
أما منهجي العلمي في قراءة الواقع وتصويره وتفكيكه و وصولاً الى استنتاج رؤيتي، فهو منهج وصفي تحليلي. وإذا كان هذا الوصف الواقعي بمصطلحاته ومفاهيمه ومصاديقه واستنتاجاته، يستفز الآخرين و يحملهم على اتهامي بالطائفية، فهذه مشكلتهم وليست مشكلتي.
ـ نعود الى موضوع الحوار ، كيف أثّرت الثورة الإيرانية على أوضاع الشيعة في العراق والعالم؟
- ثورة الإمام الخميني وشخصيته أثّرا تأثيراً كبيراً على الأوضاع في العراق، على المستويات الشعبية والدينية والسياسية، على اعتبار أن الحوزة العلمية النجفية التي كان يقيم فيها الإمام الخميني، هي حوزة شيعية تتأثر وتؤثر في البلدان ذات الأغلبية السكانية الشيعية. كما أن العراق ذو أغلبية سكانية شيعية مغلوبة، فهو يتأثر تأثراً تلقائياً، من النواحي الدينية والاجتماعية والسياسية، بما يحدث في الجارة الشيعية إيران، التي يشترك معها في الدين والمذهب والفقه، وسبعة مراقد للأئمة في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء ومشهد، ومرجعيات دينية عربية وفارسية وآذرية يقلدها الشعبان، وحوزات علمية في النجف وكربلاء والكاظمية وقم ومشهد وطهران وأصفهان تتشابه في كل شيء، وبحدود تصل الى 1200 كلم، و أواصر أسرية وعشائرية، تمتد من الجغرافية السكانية العربية في البصرة والعمارة وخوزستان، ثم الجغرافية السكانية الفيلية في واسط والكوت وديالى وإيلام وكرمانشاه، وصولاً الى الجغرافية السكانية الكردية في كردستان وآذربيجان والسليمانية وأربيل. هذا فضلاً عن مئات الأسر المنقسمة في تبعيتها الوطنية بين إيران والعراق.
وقد انعكس حراك الحوزة النجفية المتفاعل مع الإمام الخميني وثورته على العراق بأكمله، لاسيما على بغداد ومناطق الوسط والجنوب، بشكل ملحوظ، لا سيما بعد أن بايع الشهيد محمد باقر الصدر، الإمام الخميني، ودعم ثورته الإسلامية. كما أن الحركة الإسلامية العراقية، وفي مقدمها تنظيمات حزب الدعوة الإسلامية، وجهات عراقية شيعية اجتماعية ودينية وثقافية عديدة أخرى، دعموا الثورة الإسلامية في إيران، ما شكّل عاملاً أساسياً في خلق حراك شيعي شامل جديد داخل العراق.
وبعد تطور الأحداث، والهجوم العنيف الواسع الذي شنه نظام البعث العراقي ضد هذه الحراك، وإعدام الشهيد الصدر ومئات الآلاف من أبناء الوسط والجنوب، ومساعي اجتثاث الحركة الإسلامية الشيعية العراقية، وحملات التهجير، وشن صدام حسين حربه ضد إيران، والهجرات الكبيرة للعراقيين الى إيران، فإن عدد العراقيين الشيعة، عرباً وكرداً وتركماناً، وصل الى حوالي مليون عراقي في إيران. وقد ساهم هذا الكم الهائل، بما فيه من نخبة كبيرة، ساهم في بناء واقع عراقي شيعي جديد، انطلاقاً من إيران، على اعتبار أن الجمهورية الإسلامية دعمت هؤلاء العراقيين، وساهمت في توحيد صفوفهم، وبناء مؤسساتهم. وحتى عندما انتشر العراقيون في كل بقاع الأرض، ولاسيما في أماكن تركز المعارضة العراقية آنذاك، كسوريا وبريطانيا، فإن علاقات العراقيين السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية بالجمهورية الإسلامية بقيت وطيدة.
- وماذا بعد سقوط النظام البائد في 2003؟
- بعد العام 2003 حين سقط نظام البعث، عاد المهاجرون والمهجرون الى العراق، والتحمت الحركات الإسلامية المهاجرة بتنظيماتها وجمهورها في الداخل، وأصبح لها النفوذ الأوسع اجتماعياً وسياسياً، وبالتالي استطاعت أن تمسك بزمام العملية السياسية، استناداً الى أصوات الشعب، وعبر صناديق الاقتراع. و لايزال الشعب العراقي في كل انتخابات يرجح التيارات الإسلامية الشيعية، كحزب الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري ومنظمة بدر وفصائل المقاومة، على غيرها من الأحزاب والتيارات العلمانية.
ـ كيف تقرأ موقف ايران من العملية السياسية في العراق؟
ـ كان للجمهورية الإسلامية موقف واضح متفاعل بقوة من العملية السياسية بعد العام 2003، فقد وجدت فيها الأمل الذي يخلص الشعب العراقي من نظام طائفي ظالم جائر، تسبب في تدمير العراق والمنطقة، فكانت إيران الدولة والحوزة والشعب، الداعم الأول للعراق بعد 2003، كما عملت على مشاركة الشعب العراقي حربه ضد الإرهاب. وقد كان دعم الجمهورية الإسلامية للعراق في محاربة الإرهاب، مؤثراً جداً وأساسياُ في دحر تنظيمات القاعدة وداعش والبعث، ولا سيما بعد تآمر الدول الإقليمية والعالمية على العراق خلال العامين 2013 و 2014. وقد هبّ ملايين الشعب العراقي تلقائياً الى إيران لزيارة المراقد المقدسة لآل البيت، وهي لاتزال بالكثافة نفسها حتى اليوم، فيما تحرك ملايين الشعب الإيراني بلهفة الى زيارة العراق لحضور المناسبات الدينية وزيارة العتبات المقدسة، ولايزالون.
و هذه كلها تؤيد الرأي القائل بالتلاحم والتفاعل التاريخي بين البلدين، العراق وإيران، وبأن العلاقة بين شعبي البلدين، ولاسيما شيعة البلدين، هي علاقة أخوة ميدانية وصداقة عميقة، تتجاوز الشعارات الوهمية.
- وهل تستهدف هذه العلاقة بين البلدين، المكونات العراقية الأخرى أو دول الجوار، أو يمثل تهديداً لها.
- كلا، إطلاقا، لأن استقرار المكون الشيعي العراقي وحصوله على استحقاقه السياسي والثقافي والمذهبي الطبيعي، يشكل أهم عامل لاستقرار العراق، بل المنطقة العربية برمتها، كما سينعكس هذا الاستقرار على سنة العراق وكرده، فشيعة العراق هم الغالبية الوطنية، وهم أهم أساس للحمة العراق الوطنية، وهم وطنيون شكلاً ومضموناً، ولا يتعاملون مع أهلهم السنة والكرد إلّا في إطار قواعد المواطنة والوطنية والعيش المشترك والمصير المشترك، فالشيعة والسنة والكرد هم قوام الأمة العراقية، وكل منهم يمثل الرئة التي يتنفس منها الآخر. ولذلك فإن مساحة المصالح المشتركة مع الجمهورية الإسلامية تنعكس إيجاباً على جميع مكونات الشعب العراقي. فضلاً عن أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تتعامل مع شيعة العراق من منطلق المشترك الطائفي، لأنها تتعامل مع أصدقائها السنة والكرد بصيغة المصالح المشتركة المتبادلة نفسها. وبالتالي فإن صداقات الجمهورية الإسلامية أو تحالفها مع العراق ومكوناته ليست ضد أحد، بما في ذلك دول الجوار. ولو نظرت السعودية وتركيا ومصر والأردن الى هذه الصداقات نظرة واقعية عميقة، لشجعتها وتعاملت معها بكل إيجابية، لأنها ستنعكس إيجاباً أيضاً على أوضاعها الداخلية وعلى علاقتها بالعراقيين.
- إذاً، ما هو برأيكم عنوان العلاقة بين شيعة العراق وإيران؟
- قطعاً ليست تبعية ولا عمالة، كما يزعم الأعداء، بل لقاء وثيق في مساحة المصالح المشتركة، وفي مساحة المشترك الديني المذهبي. وهي مساحة على قدر كبير من الأهمية، فهناك فئات من شيعة العراق يعتبرون هذه المساحة من المصالح المشتركة هي مساحة مصيرية و وجودية، وأن كلا الساحتين تحتضنان بعضهما وتتفاعلان بصورة تلقائية، حتى دون تخطيط أو قرار، لأن هواجس معظم الشيعة العراقيين من عودة تاريخهم المتخم بالاضطهاد والقمع والتهميش والقتل والمقابر الجماعية والتشريد، وكذا الحرب الطائفية التي تشنها عليهم بعض دول الجوار، وفي مقدمها السعودية الوهابية، تجعلهم يتمسكون بالغطاء المشترك الذي يجمعهم مع شيعة إيران. وهي حالة إنسانية فطرية وغريزية. وهناك فئات شيعية عراقية أخرى غير إسلامية وغير متدينة، تجد أن إيران هي الأقرب إليها سياسياً، ولا سيما بعد أن تلمسوا حالة العداء الطائفي الذي يستهدف الجميع، بعد العام 2003، دون أن يفرق بين شيعي إسلامي أو شيعي علماني، أو شيعي مسؤول أو مواطن شيعي عادي؛ فالتفجيرات التي قامت بها الجماعات الوهابية وبقايا حزب البعث، والمدعومة من مخابرات دول إقيليمية و دولية، استهدفت المواطن الشيعي العادي قبل الشيعي المسؤول، واستهدفت الأسواق والشوارع والمراقد ومجالس العزاء، قبل أن تسهدف مؤسسات الحكومة. كل هذا جعل الشيعي العراقي يرفض بشدة أن يكون مكشوف الظهر. ولذلك ظل عنوان العلاقة بين شيعة العراق وشيعة إيران، عنوان الصداقة العميقة والأخوّة الميدانية والتحالف بوجه التهديدات الوجودية الكبيرة.
- ما تأثير الثورة الإسلامية الإيرانية على الشيعة في المنطقة؟
- أثرت الثورة الإسلامية، على الواقع الإسلامي عموماً، و الشيعي خصوصاً، في كل منطقة الشرق الأوسط، فكان لها تأثيرها الديني والثقافي والسياسي الكبير. وقد شهدت المنطقة بفضل هذا التأثير، حضوراً متصاعداً تلقائياً للشيعة، فالمكونات الشيعية في لبنان وسوريا والبحرين والسعودية واليمن وافغانستان وباكستان واذربيجان والهند وتركيا والدول الأخرى، أصبحت في حالة صعود كبير، وحققت الكثير من الإنجازات التاريخية على الأرض، حتى أصبح المراقبون الدوليون والباحثون يعتقدون أن هذا العصر هو عصر تكسر القيود التاريخية عن الشيعة، وأنه عصر الصعود الشيعي.
- على ماذا يستند عصر الشيعة برأيكم؟
- عصر الشيعة يقف حالياً على خمسة قواعد رئيسة هي: إيران، العراق، لبنان، ثم سوريا واليمن، إضافة إلى قواعد ثانوية أخرى مثل: شيعة البحرين والدول الأخرى.
ـ وهل من شأن هذا الصعود الشيعي التأثير سلباً على المكونات المذهبية الإسلامية الأخرى في المنطقة، كالسنة مثلاُ.
ـ على العكس تماماً، كما ذكرت في جواب سابق، فإحساس الشيعة التاريخي بالاضطهاد والتهميش والقمع، سيدفعهم غريزياً وفطرياً الى ردود فعل سلبية تساهم في زعزعة استقرار المنطقة، وهو أمر طبيعي، كما هو الحال ـ مثلاً ـ مع ماكان يحصل في العراق خلال حكم البعث، أو ماكان يحدث في السبعينات في لبنان، أو ما لايزال يحدث في البحرين والسعودية ومصر والمغرب والجزائر وأفغانستان وباكستان وغيرها. فالمشكلة تكمن في تعامل أنظمة هذه الدول مع الشيعة في بلدانها، فلو تعاملت مع الشيعة كما تتعامل مع السنة، أي بنظرة واحدة، دون تمييز طائفي، ومكّنتهم من الحصول على حقوقهم السياسية والاجتماعية والمذهبية، وفتحت أمامهم حرية التعبير الديني والثقافي والفكري، ومنعت مشايخ التكفير والسوء والشر من الإفتاء بتكفير الشيعة وخروجهم على مذهب الدولة، لذاب الشيعة في النسيج الوطني، وساهموا مع أشقائهم السنة في بناء بلدانهم وإدارتها. ولذلك، أنا أعتقد جازماً أن سماح نظامي السعودية والبحرين ـ مثلاً ـ لانطلاق عناصر الصعود الشيعي في بلديهما، الى حد المساواة في حقوق المواطنة وحرية التعبير المذهبي والثقافي مع السنة والوهابية، كما هو الحاصل في الكويت وعمان، سيعمل على خلق عامل استقرار مجتمعي وسياسي قوي في السعودية والبحرين. وهو الأمر نفسه لو تركت السعودية العراق وشأنه، ورضخت للأمر الواقع، واعتبرت أن الصعود الشيعي في العراق أمر طبيعي، وأن الصداقة العميقة بين شيعة العراق وإيران قضية فطرية تلقائية، ولم تتدخل لمنع استقرار العراق، فسينعكس كل ذلك إيجاباً عليها.
ـ هل تعتقد أن الجهات الرسمية السعودية والبحرانية مستعدة لسماع هذه الرؤية؟
ـ أنا مستعد أن أتحاور مع نخبتهم الفكرية حواراً علمياُ معمقاً، وأضع بين أيديهم كل الأدلة الواقعية التي تؤكد أن صعود شيعة المنطقة الى حد المساواة في الحقوق والحريات مع السنة، هو لمصلحة دول المنطقة، ولاسيما السعودية والبحرين، وضمانة لاستقرارهم على كل الصعد.
المسلة