ارباك في ’تل أبيب’: ماذا تريد موسكو؟
جهاد حيدر
بعد شهر ونصف على سقوط الطائرة الروسية في الثامن عشر من ايلول الماضي، تبدو الأزمة الروسية - الاسرائيلية أكثر احتداما مما كان متوقعاً في "تل ابيب"، بل ذهبت أبعد مدى من كل أو أغلب التقديرات التي تناولت هذه المحطة، حول ما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات تتصل بمستقبل قواعد الاشتباك السائدة في الساحة السورية.
اذا ما استندنا الى السردية الاسرائيلية لاستمرار الأزمة، فتعود بحسب مصادر أمنية رفيعة المستوى في كيان العدو، الى محاولة الروس أن يفرضوا على "إسرائيل" قواعد تنسيق جديدة لا يمكنها قبولها، نظراً إلى أن من شأنها أن تقيّد كثيراً فاعلية الهجمات الإسرائيلية في سوريا، وأن تشكل خطراً ملموساً على الطائرات الإسرائيلية، وأن تتسبّب بتسريب معلومات استخباراتية إلى "العدو الإيراني والسوري". ولدى التدقيق في الرواية الاسرائيلية، فإنها تنطوي ايضا على مخاطر عملانية، لا تستطيع "اسرائيل" التكيف والتسليم بها.
لم يبادر أي من القادة الاسرائيليين الى الاقرار المباشر والصريح بالتحدي الذي تواجهه "تل ابيب"،
بالمقارنة، مع الاداء الاسرائيلي في الأيام التي تلت حادثة سقوط الطائرة الروسية، يلاحظ أنهم في "تل ابيب" كانوا يراهنون على أنه بعد خفوت وهج صدمة مقتل 15 ضابطا كانوا على متن الطائرة الروسية، يمكن العودة الى ما كان عليه الوضع قبل 18 ايلول. أما وبعد كل المحطات التي مرت بها الازمة البينية، (موسكو – تل ابيب) من المؤكد أن الارباك يسود الآن المستويين السياسي والامني، حول الخيار الواجب اتباعه، في ظل تراجع الرهان لديهم على امكانية تطويع الموقف الروسي، حتى عبر الاستعانة بالاميركي.
صحيح حتى الآن، لم يبادر أي من القادة الاسرائيليين الى الاقرار المباشر والصريح بالتحدي الذي تواجهه "تل ابيب"، إلا أن مؤشرات هذه الأزمة بدت أكثر وضوحا، وظهرت ملامحها في المواقف الروسية وتقارير المعلقين العسكريين المطلعين على أجواء المؤسسة الامنية.
من ابرز تجليات تفاقم الأزمة بين "تل ابيب" وموسكو:
تحذيرات الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية الجنرال إيغور كوناشينكوف، التي بدت أقرب الى التحذير الذي لا تستطيع "تل ابيب" تجاهله "من المناسب أن تتم دراسة الوضع الحالي في المنطقة بشكل ملائم"، وأن روسيا ماضية بتدريب القوات العسكرية السورية على استخدام وتشغيل منظومة الدفاع الجوي الروسية "إس 300"، بناء على تعليمات القيادة الروسية، ونصح كوناشينكوف ايضا كل من تسوّل له نفسه بتفادي الاستفزازات في الأجواء السورية. وقال كوناشينكوف: "أنصح ذوي الرؤوس الحامية بالابتعاد عن الاستفزازات وتقويم الوضع بشكل منطقي". ولولا المعرفة المسبقة بأن موسكو لا تنظر الى "اسرائيل" نظرة عداء، وليست جزءًا من محور المقاومة في الصراع ضد الكيان الاسرائيلي، لاعتبرت هذه المواقف كما لو أن الجيش الروسي ينتظر خطأ من الجيش الاسرائيلي كي يوجه له ضربة انتقامية على سقوط الطائرة الروسية.
تأكيد وسائل اعلام اسرائيلية أنه منذ 45 يوما، هناك قطيعة تامة بين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ووزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان. وجميع محاولات ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية عقد اجتماع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في باريس خلال ذكرى الانتصار في الحرب العالمية الاولى، باءت بالفشل ولم تحظ بأي تجاوب من طرف الكرملين. ولا شك في أن هذه القطيعة بين الجانبين تزيد من صعوبة حل عدد من المشاكل المبدئية.
كل هذه المعطيات تؤشر الى أن "اسرائيل" باتت أمام مرحلة جديدة، وأن ما بعد سقوط الطائرة الروسية ليس كما قبلها. لكن حتى الان لم تكتمل معالم القواعد الجديدة التي ستفرضها موسكو ازاء الاعتداءات الاسرائيلية. في المقابل، تجد "تل ابيب" نفسها ملزمة بدراسة خياراتها التي باتت أكثر ضيقاً وأكثر كلفة وأقل جدوى لأكثر من اعتبار سياسي وميداني.
والى الآن لم يبرز في "تل ابيب" من يقدم شرحاً للجمهور الاسرائيلي عن حقيقة الأسباب التي أدت الى تدحرج الأزمة الى هذا المستوى من الخطورة، ولعل ما يشغل صناع القرار والخبراء والمعلقون، الاجابة على سؤال ما الذي تريده موسكو، والى أين تريد أن تصل؟ وماذا لو حاول سلاح الجو الاسرائيلي أن يكرر عمليات القصف التي كان يقوم بها سابقاً، هل سيتم اسقاط طائراته وماذا سيكون الرد الروسي على الرد الاسرائيلي؟