ليس معبراً حدودياً بل المعبر إلى الحرب ومنها
رغم كل الضخ الإعلامي للإيحاء بوجود تسوية سبقت وصول الجيش العربي السوري إلى الحدود مع الأردن وتسلّمه معبر نصيب ، يعرف كل متابع أن التسوية في جنوب سورية سقطت، وأن سقوطها تسبّب بلجوء الجيش السوري للحسم العسكري، وأن التفاوض الذي لحق بالعمل العسكري السوري والانتصارات السريعة والواسعة التي سجلها، تشبه كل المفاوضات التي أعقبت انتصارات حلب والغوطة. وهي ليست على الإطلاق صيغ تسوية..
وتكفي قراءة التعليقات الإسرائيلية على الرهانات الأميركية والإسرائيلية والسعودية على صمود الجماعات المسلحة لعرقلة تقدّم الجيش السوري أملاً بتحسين الوضع التفاوضي، وحجم الخيبة التي حملها الانهيار السريع لهذه الجماعات، والانتصارات الباهرة وسرعتها في جانب الجيش السوري، ووصفها بالانتصارات التاريخية، لفهم معنى الكلام الإسرائيلي عن مرحلة جديدة ما بعدها غير ما قبلها، بصورة تبرّر التموضع الإسرائيلي خلف خط فك الاشتباك الموقع عام 1974 الذي أسقطته «إسرائيل» أصلاً عام 2011، وذهبت للرهان على تغيير قواعد الاشتباك بالتقدم نحو اقتطاع جزء من الجغرافيا السورية كحزام أمني يستعيد تجربة جماعة أنطوان لحد في جنوب لبنان لسنوات ما قبل التحرير عام 2000.
شكل جنوب سورية لارتباطه العضوي بالمصالح العليا والاستراتيجية لـ"إسرائيل" بوابة الحرب على سورية، وشكلت الحدود الأردنية بوابة التدخلات المتعدّدة لمخابرات الدول العظمى والمتورطين في الحرب على سورية من دول الإقليم، وأنشأت غرف العمليات الإعلامية والعسكرية على السواء على الطرف الآخر من الحدود، لكن الأهم أن السيطرة على الحدود وعلى المعبر كانت قضية بذاتها. فسيطرة الدول على حدودها من أهم معالم دورها السيادي، وسيطرتها على المعابر الحدودية إعلان وجود، وانتزاع هذه المعابر منها كانت قضية تسبق قضية السيطرة على الجغرافيا والدولة، ولذلك كان المعبر الحدودي مع الأردن، هدفاً أول للإيذان ببدء زوال وتفكك الدولة السورية، وتبعتها المعابر مع تركيا والعراق وبعض المعابر مع لبنان، للقول إنه رغم بقاء قلب الجغرافيا السورية بيد الدولة وما تمثله دمشق ومنطقة الساحل وما بينهما حماة وأطراف رئيسية في حلب وحمص، فإن المفهوم الدولي والإقليمي لوجود دولة سورية قد سقط.
الأهمية الاستثنائية الإضافية للمعبر الحدودي مع الأردن كان لخصوصية الدور الإسرائيلي في الحرب السورية. فعندما تكون أميركا رأس الحلف الساعي لإسقاط الدولة السورية، فالحسابات الإسرائيلية حكما في المقدمة. وعندما تكون الحرب حرب استخبارات تكون «إسرائيل» أيضاً في المقدمة، وعندما يكون بناء حزام أمني على حدود الجولان بعض أهداف الحرب، تكون «إسرائيل» في المقدمة، وعندما تكون جماعات الأخوان والقاعدة هي الرهان في الحرب، ونقطة انطلاق هذه الجماعات بعد سنوات من التحضير بالمال والفتاوى والشحن الطائفي عنوانه الجنوب، تكون «إسرائيل» في المقدمة، لذلك فإن السيطرة على المعبر الحدودي مع الأردن كانت ضرورة لانطلاق كل هذه الأبعاد، حيث «إسرائيل» في المقدمة، فبوابة العبور بسورية إلى الحرب تصير من معبر نصيب والسيطرة عليه، وهكذا كان.
بدون درعا وعمق حوران لا قدرة ولا حول ولا قوة للجماعات التي أسرجتها «إسرائيل» لمشروعها في الجنوب، وبدون تواصل هذه الجماعات مع عمقها الإقليمي والدولي من المعبر الحدودي مع الأردن لا قدرة لهذه الجماعات على الحركة. فيسقط المشروع، وتتجمّد قاعدة التنف ويتشظى الشريط والحزام الأمني، كعناوين للمشروع الإسرائيلي. ومتى تساقطت أوراق القوة في الجنوب، وصار خيار الإنكفاء الأميركي الإسرائيلي قدراً بخسارة الحاضنة والعنوان، وليس واحداً من خيارات لها بدائل، يؤسس لمثال سيتكرّر في الشمال. وعندما يحدث كل ذلك دون تسوية ولا يكون نتاجاً لتفاوض، بل العكس ثمرة فشل التفاوض ونتاجاً لفعل الحسم العسكري المتسارع للجيش العربي السوري. فهو تعبير رمزي عن مختزنات عميقة الدلالة على أن الحرب التي بدأت هنا تدخل النهاية من هنا. وأن المعبر الذي انتزع بقوة التحالف الأميركي الإسرائيلي الأردني السعودي القطري من الدولة السورية، تستعيده الدولة السورية من كل هؤلاء عنوة وقسراً، ولو لم تكن جيوشهم حاضرة في القتال، فالذي يسقط هو مشروعهم، وللمنتصر مشروع معلوم سلفاً سيجد خطواته اللاحقة في الشمال.
لا يخطئ الإسرائيليون عندما يقولون إن نصر الجيش العربي السوري في الجنوب هو نصر استراتيجي، ولا عندما يقولون إن الرئيس السوري بات قاب قوسين من نصره النهائي، وإنه من العبث محاولة عرقلة سيره بقوة نحو هذا النصر، وإن لا قوة قادرة على منعه من ذلك، هذه هي الحقيقة التاريخية للنصر التاريخي.
ناصر قنديل