ترنّح السياسة الأميركية أمام مسارات رفض الهيمنة...
زهير فياض
السياسة الأميركية ليست قدراً، بل مسار تقوده إدارة سياسية في إطار رؤية معيّنة تضع نصب أعينها أهدافاً قريبة أو متوسطة أو بعيدة المدى، وتعمل على تحقيقها وفق سلوكيات معينة.
هذه السياسة تاريخياً تحكمها مجموعة من المحدّدات والأطر التي لا يستطيع أيّ رئيس أميركي تجاوزها أو تخطّيها أو القفز فوق خطوطها الحمر، وإن توسّعت أو ضاقت هوامش الحركة لأية إدارة أميركية جديدة، سواءٌ أكانت ديمقراطية أو جمهورية، ولا تشذّ عن هذه القاعدة إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب، سواءٌ في ما خصّ المسائل الداخلية الأميركية أو في السياسات الخارجية حول العالم، ولا سيما سياسات الولايات المتحدة الأميركية في منطقتنا وبلادنا بشكل خاص، كنتيجة لهذا التزاوج والتلازم في المسارات بين الإدارة الأميركية وبين الكيان الصهيوني في فلسطين الذي تقف وراء دعمه مجموعات الضغط الصهيوني واللوبي «اليهودي»، سواء في أميركا أو في الغرب عموماً بما يحقق لهذا الكيان كلّ أسباب القوة المادية والاقتصادية والعسكرية التي ساعدته على تحقيق التفوّق النوعي في القدرات على مجموع الدول والكيانات السياسية القائمة في بلادنا في المراحل السابقة قبل انبلاج عهد المقاومة الشعبية الحقيقية سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق، وبدء تغيير المعادلات منذ ثمانينيات القرن الماضي باتجاه تثبيت مسارات شعبنا في رفض الهيمنة والسيطرة والإخضاع، ووقف التراجع والانحدار، وتحقيق معادلة الردع والمقاومة وتثبيت منهجها طريقاً وحيداً للتحرير والنهوض والوحدة.
لقد مرّت بلادنا منذ احتلال العراق إلى اليوم بظروف جدّ استثنائية، وتعرّضت لشتى أنواع الهجمات والضغوط والسيناريوات المدمّرة والمتعدّدة بكلّ تشعّباتها وتداعياتها واستهدافاتها لكامل البنية المجتمعية لأمتنا وبلادنا بهدف إسقاط كلّ مواقع الممانعة والمقاومة فيها، وتدجين الإرادة الشعبية وإضعافها لفرض مشاريعها الهادفة إلى تصفية المسألة الفلسطينية وخلق واقع سياسي اجتماعي هشّ قائم على قواعد التجزئة والتقسيم كمخرج وحيد لإراحة كيان الاستيطان الصهيوني اليهودي في فلسطين وفتح آفاق استمراره وتأمين حمايته وفرض هيمنته الاقتصادية والعسكرية على كامل المنطقة.
بيد أنّ هذه السياسة الامبراطوريّة الأميركية اصطدمت بإرادة القوى الحيّة في بلادنا وبقدرتها على المقاومة متكئةً على مخزون إنساني حضاري كبير وعلى قدرات هائلة ترجمها إنساننا صموداً وبطولةً ونضالاً وكفاحاً في الميادين كلّها وعلى الجبهات كلّها وفي الساحات كلّها، رفضاً لهذه السياسة الرعناء التي تتماهى بالكامل مع السياسة «الإسرائيلية» وتتطابق معها في الأهداف والأساليب والغايات والأبعاد والرؤى...
إنّ أحداث وتطوّرات السنوات الماضية ومحاولات إشعال المنطقة وإدخالها في أتون الصراعات العبثية القاتلة والمدمّرة والعبثية وصلت الآن نهاياتها، بعد الإنجازات الميدانية الهائلة التي حقّقتها قوى المحور المقاوم بأطيافه كلّها من العراق إلى فلسطين مروراً بلبنان والشام وسقطت كلّ محاولات حرف الصراع عن حقيقته. حقيقة الصراع الوجودي بين المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي وبين شعبنا في دفاعه عن وجوده، كلّ هذه المحاولات انكشفت وتمّ إسقاط الأقنعة وكشف الحقائق والمعطيات التي توسّلت إيجاد صراعات ذات طابع طائفي ومذهبي وإثني وعرقي وقبلي، وانتصرت حقيقة الحياة الواحدة لشعبنا في إطار دورته الاقتصادية الاجتماعية الواحدة والشاملة لجغرافية بلادنا كلها، فانتصرت ديناميات الحياة على كلّ ستاتيك الموت القاتل المتنقل من ساحة الى ساحة، ومن ميدان إلى ميدان.
لم تعد ممكنة إعادة عقارب الساعة الى الوراء، فالعراق ينهض من تحت الركام يحاول لملمة أوضاعه وإعادة بناء قدراته وتحقيق توازنه الداخلي، والشام سورية قطعت مرحلة حاسمة وأساسية في هزيمة مشروع إسقاط الدولة فيها بما ترمز إليه من تناغم كلّ عناصر الوحدة الشعبية الحقيقية فيها، وبما تشكله من عمق استراتيجي ثابت لحركات المقاومة كلّها في بلادنا، ولبنان شكّل بصموده ومقاومته نموذجاً رائداً يُحتذى به في رسم مسارات المقاومة في بلادنا كلها. والأهمّ من كلّ هذا استعادة ألق النضال الفلسطيني بعد كلّ هذا التآمر على المسألة الفلسطينية ومسارات التفاوض العقيم والتسويات الفاشلة المهينة التي لم تقدّم لشعب فلسطين أيّ نتيجة حقيقية يُعتدّ بها في تحقيق التحرير الشامل والناجز للتراب الفلسطيني. وها هي بذور انتفاضة فلسطينية شعبية جديدة تعتمل في الأرض الفلسطينية، في مدن الداخل الفلسطيني وقراه شكلت وستشكل الردّ الآني على إعلان ترامب حول القدس، وعلى الإعلانات الباطلة كلّها من وعد بلفور الى يومنا هذا...
هناك حقيقة واحدة مؤكدة وهي بداية مرحلة جديدة في المقاومة ورفض الهيمنة الأميركية والتسلط وأحلام السيطرة والأحادية حول العالم... وإن غداً لناظره قريب...