أم المعارك: الحدود السورية – العراقية ومستقبل التوازنات في المنطقة
سركيس ابو زيد
تكتسب الحدود السورية - العراقية أهمية لكل الأطراف الدولية والإقليمية التي تتسابق للسيطرة على مناطقها، نظرا لأهميتها وأبعادها الاستراتيجية. فما يحصل على الحدود السورية – العراقية، من البادية السورية إلى "البوكمال" مرورا بنقطة الاشتباك الحامية في التنف، سيقرر مستقبل التوازنات الاستراتيجية الحساسة في المنطقة كلها.
ما يحصل على الحدود السورية – العراقية سيقرر مستقبل التوازنات الاستراتيجية الحساسة في المنطقة
فالتعزيزات الأميركية المرسلة الى "معبر التنف" عند المثلث الحدودي السوري- العراقي – الأردني، وتزويد قاعدة عسكرية موجودة هناك بنظام مدفعية متطور مخصصة للأهداف البعيدة المدى، وظهور قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني عند نقطة الحدود السورية ـ العراقية (من جهة العراق)، وزيارة وفد عسكري سوري رفيع المستوى الى بغداد للتنسيق في شأن "أمن الحدود"، كلها مؤشرات ومقدمات الى مواجهة عسكرية كبرى واستراتيجية اسمها "معركة الحدود السورية – العراقية".
من جهتها، تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها للسيطرة وتعزيز قبضتها على هذه المنطقة الاستراتيجية. وتميل أيضا إلى السيطرة على المعبرين الحدوديين الواقعين بين سوريا والعراق وذلك من أجل التقدم نحو منطقة البوكمال وهزيمة تنظيم "داعش". السيطرة على المنطقة الشرقية لسوريا تحقق لواشنطن جملة أهداف استراتيجية، على رأسها قطع خطوط التواصل البري لإيران عبر الحدود مع العراق حتى شاطئ المتوسط، وإكمال الطوق حول "إسرائيل" من جنوب لبنان إلى الجولان. كما أن المنطقة غنية بالنفط تعزز موقع الممسكين بها في مواجهة الآخرين، اقتصاديا وعسكريا. وتريد أميركا أيضا السيطرة على طريق دمشق بغداد لملاقاة "قوات سوريا الديمقراطية" (الكردية) التي تدعمها بأسلحة أميركية، وذلك استعدادا للانقضاض على تنظيم "داعش" في الرقة ودير الزور، ومن أجل تقليص قوة إيران وحلفائها في هذه المنطقة.
لكن، أهم هدفين للإدارة الأميركية الجديدة هما إيقاف أو الحد من تطور برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، وحصر الانفلاش الإيراني في المنطقة، وتحديدا عبر منعها من فتح ممر بري يصل حدود إيران الغربية بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا، مع التركيز على إنهاء وجود إيران وحلفائها من المناطق المحاذية للجولان. وسيبقى موضوع القضاء على تنظيم "داعش" على قمة أولويات الإدارة الأميركية الجديدة، والهدف لن يكون القضاء عليه فحسب، وإنما السيطرة على أراضيه ومنع إيران وحلفائها من احتلالها واستخدامها في بناء الممر البري نحو الساحل السوري.
تتوقف أوساط دبلوماسية متابعة لتطورات الملف السوري في المثلث الحدودي "السوري - العراقي – الأردني" عند ثلاث مسائل أساسية:
١-الازدواجية الروسية لجهة فتح خطوط اتصال وتعاون في الاتجاهين الأميركي والإيراني. وفي هذا الإطار تندرج المحادثات الأميركية - الروسية - الأردنية التي بدأت في عمان منذ منتصف أيار الماضي وأسفرت عن الاتفاق على مذكرة تفاهم ثلاثية، فيها مبادئ "المنطقة الآمنة" جنوب سوريا، وتحديدا في درعا وريفها، في وقت لعبت موسكو دور الوسيط بين واشنطن من جهة وكل من طهران ودمشق لرسم خطوط التماس قرب حدود العراق، ما أسفر عن تفكيك قاعدة الزقف الأميركية شمال معسكر التنف.
٢-الأداء الأميركي الذي يعاني للمرة الأولى منذ وصول ترامب الى البيت الأبيض من ارتباك وعدم وضوح ينعكس على مصداقيته عند الحلفاء الذين بدأوا يشككون في مدى قدرته على تنفيذ ما يعلنه ويعد به، وخصوصا لجهة الطريقة التي يتصرف بها الأميركيون في مواجهة التمدد الإيراني من العراق الى سوريا عبر الحدود. وهذا يعني أن ترامب غير مسيطر على إدارته وهناك ازدواجية ومركزان للقرار في واشنطن: ترامب وفريقه من جهة و"الدولة العميقة" (الاستخبارات والأمن والدفاع) من جهة أخرى، وهذا يعني أن ترامب واقع تحت تأثير الدولة العميقة وليس إلا واجهة لحكم يديره فعلا ويقرر فيه الجنرالات.
ارتباك أميركي واضح في القرارات السياسية والعسكرية
الارتباك الأميركي في القرارات السياسية والعسكرية، ليس ناجما عن تخطيط مسبق، بل عن غيابه. والتحركات الاميركية تفتقر إلى خط ناظم يرسم استراتيجية واضحة ويحدد الأولويات وتداخلاتها، والعلاقة بسائر الفرقاء على الأرض، لا سيما روسيا وإيران، سلبا أو إيجابا. وبالتالي فإن الدينامية التي رفعت وتيرة هذه الحرب كانت انطلاق السباق المحموم لوراثة تركة "داعش"، مع اقتراب هزيمته في الموصل وبعدها في الرقة. الأمر الذي أدى إلى فتح شهية جميع المتصارعين على تقاسم خريطة بلاد الشام في غياب أي تفاهم بين الكبار، وارتفاع حدة المواجهات التحذيرية بينهم.
فهذه ليست المرة الأولى التي تخاطب فيها موسكو واشنطن بلهجة تحذيرية، حصل ذلك قبل أشهر عندما ضربت الطائرات الأميركية مطار الشعيرات. وقبل أسابيع عندما وجهت الطائرات الأميركية ضربة ضد قوات سورية نظامية لوقف تقدمها مع حلفائها باتجاه معبر التنف الحدودي مع العراق. ويحدث الآن بعد إسقاط الولايات المتحدة طائرة سورية قرب الرقة، إذ ردت موسكو بغضب على هذه العملية واعتبرتها تصعيدا خطيرا ودعما للإرهابيين الذين تزعم واشنطن أنها تحاربهم. وحذرت موسكو من تبعات سلبية وأعلنت تعليق العمل بمذكرة سلامة التحليق في الأجواء السورية الموقعة مع واشنطن.
في الواقع، لم يكن الإسقاط الأميركي للطائرة السورية التطور الأبرز. فقد حجبه وتقدم عليه تطور آخر غير مسبوق وتمثل في إطلاق إيران صواريخ بالستية "أرض أرض" يبلغ مداها 7000 كيلومتر على أهداف لتنظيم "داعش" في دير الزور، وهذه هي المرة الأولى التي يطلق فيها الحرس الثوري صواريخ بالستية متطورة من الأراضي الإيرانية الى جهات خارجية في سياق عملية عسكرية، والهدف المعلن لهذه الرسالة الصاروخية هو الرد على هجمات "داعش" في طهران والثأر لـ 18 إيرانيا سقطوا فيها. وهذا يعني أيضاً أنه من الأفضل أن يكون القتال ضد "داعش" خارج حدود إيران وليس داخلها.
الرسالة الإيرانية تطال أيضا المملكة السعودية لإشعارها بأنها واقعة في نطاق صواريخها، مع العلم أن الاتهام الإيراني الأول بعد هجمات طهران وجه الى السعودية، كما تطال بشكل غير مباشر "إسرائيل" التي اعتبرت نفسها معنية بعرض القوة الإيراني الذي يرسل إشارة تحذير لها، وكذلك الى دول الخليج وأميركا. وهذه الرسالة، التي تؤكد أن خطر إيران لا يكمن في سلاحها النووي وإنما في سلاحها الصاروخي الذي يُشكل نقطة تحول في المعادلات على مستوى المنطقة.
على خلفية كل هذا تبدو المساحة الممتدة من الحدود السورية - العراقية وجنوبا إلى الحدود الأردنية، ساحة لمواجهة استراتيجية لن تقرر مستقبل الوضع السوري فحسب، بل مستقبل التوازنات الإقليمية في ظل حدود الدور الإيراني، ورسم الأدوار والحصص الأميركية والروسية في المنطقة.
وكلها تطورات لا تبشر بقرب تسوية سياسية بقدر ما تضيف مزيدا من الزيت والتعقيدات إلى الحروب المستعرة والمستنقع المفتوح، وتوسع دائرة الترابط بين أزمات المشرق، من حدود العراق الشرقية إلى شاطئ المتوسط. وقد تكرس تقسيما غير معلن لبلاد الشام لا يقف عند حدودها.