أما آن للأكراد أن يتعلّموا الدرس؟
سعادة مصطفى أرشيد
يعيش الأكراد كمواطنين في أربع دول، سورية والعراق وتركيا وإيران… كمواطنين، اتسم وضعهم في العراق بعلاقة غير طيبة من ناحيتهم مع الدولة العراقية على اختلاف نظمها وحكامها، وتلقوا الدعم في جميع ثوراتهم من إيران الشاهنشاهية، ومن دولة الكيان العنصري التي درّبتهم وسلحتهم، ولطالما استضافتهم لقضاء الشتاء في طبريا أو للعلاج في مستشفياتها، أما آن للأكراد أن يتعظوا من تجاربهم؟!
أما تركيا فقد كانت أكثر حزماً في التعامل معهم، وامتازت علاقتهم مع الدولة التركية بالتعايش المتوتر، الذي وضعهم بمثل هذه الحالة، شمل الأكراد حتى خارج نطاق المواطنة التركية. فالدولة التركية ترى أنهم أكبر أقلية عرقية عندها، وتختصّ بمناطق واسعة في الجنوب الشرقي، حيث تمثل أغلبية سكانية، لها امتدادها في الجوار السوري والعراقي والإيراني، لذلك فلدى تركيا حساسية عالية من مشاعرهم الانفصالية مع أنهم موجودون في مفاصل الدولة، حتى أنّ حزب الشعب الكردي يملك 56 مقعداً برلمانياً.
في عام 2016 أخذت تركيا بالاشتباك مع القوى الكردية في الأراضي السورية، ومع أنها حققت بعض النجاحات، لكن الدعم الأميركي لتلك الجماعات من جانب، وحظر روسيا للطيران من جانب آخر، دعا الأتراك لعدم المغامرة بمواجهه برية واسعة بدون غطاء جوي، لكن حادث التفجير الأخير في شارع الاستقلال، أشعل غضب الدولة التركية بشكل غير مسبوق، والتسويات التي عقدتها تركيا مع روسيا إثر الحرب الروسية الأوكرانية، جعلت الروس يرفعون الحظر الجوي عن الطيران التركي بغضّ النظر المحسوب، فأعلنت تركيا عن العملية العسكرية الجوية وأعطتها اسم المخلب والسيف، فيما هدّد الرئيس التركي بتطوّر العملية الجوية لأن تصبح برية أيضاً، قائلا: (إنّ تركيا هي وحدها من يقرّر شكل الدفاع عن أمنها وأنّ على واشنطن أن تدرك ذلك جيداً).
هكذا تبدو عملية المخلب والسيف، أنها تجد تأييداً غير معلن من دمشق وموسكو، فدمشق شبه صامتة إلا من تعليقات نمطية، وموسكو تدعو لعدم العنف واستعمال القوة المفرطة، فيما لن تقدّم واشنطن أو تل أبيب أيّ دعم حقيقي للأكراد، إلا إذا كان يدفعهم لمزيد من التورّط.
في الهزيع الأخير من عمر الدولة العثمانية نشطت القنصليات الأوروبية والبعثات التبشيرية في شرقنا، ومعهم الجواسيس والمستشرقون والتجار، حيث تمّ العمل على تفتيت مجتمعنا بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية، وفصلها عن الجسم القومي لإضعاف الأمة وتمهيداً لتقسيمها جغرافياً بعد موت الرجل المريض (الدولة العثمانية)، وهو ما حصل لاحقاً في الاتفاقية الإنجلو فرنسية الشهيرة باسم (اتفاقية سايكس بيكو)، ولم يكن ذلك بعيداً عن العمل على إنشاء وتبرير وجود الكيان العنصري الغاصب في فلسطين. لاقت هذه المشاريع رواجاً لدى بعض الطوائف والإثنيات، فيما رفضت معظمها ذلك، والشاهد في هذه المقالة هو الحالة الكردية.
عاش الأكراد بين ظهرانينا، ومثلوا جزءاً من خليط الأمة ذات الأصول العرقية المختلطة، ولكن صاحبة الهوية القومية الواحدة المنصهرة، وأسهموا مع باقي المكونات في الدفاع عنها، كما عرفوا بالطيبة والشجاعة والكرم، فكان منهم في التاريخ (صلاح الدين الأيوبي) رمز هزيمة المشروع الفرنجي، وكانت منهم شخصيات معاصرة. وفي التاريخ الحديث كان لها دورها في الدفاع عن الأمة وعن ثقافتها، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، أنّ رئيس المجمع العلمي في دمشق وأول وزير للتربية والتعليم في سورية المعاصرة كان الراحل محمد كرد علي.
لكن الزعامات الكردية التي ترعرعت في أحضان منطق التقسيم الجغرافي والإثني والطائفي، ورعتها الإرادات الأجنبية الغربية بداية و(إسرائيل) لاحقاً بالسلاح والتدريب والرعاية الإعلامية، كانت على المستوى البعيد كارثية على الأكراد أولاً وعلى الأمة ثانياً، والحجة التي كانت تسوقها الحركات الكردية، بأنّ الكردي غير حاصل على حقوقه، ففي بعض كياناتنا لم يكن المواطن ـ أيّ مواطن حائزاً على حقوقه كردياً كان أم غير كردي، وفي حالات أخرى، كانت المناطق الكردية والمواطنين الأكراد يحصلون على مغانم إضافية من باب استرضائهم.
القيادات الكردية ذات النهج الانفصالي، كانت على الدوام تنقلب على الأمة كلما شعرت باختلال في موازين القوى الدولية والإقليمية، أو بضعف دولة المركز فتنقضّ عليها واجدة في (إسرائيل) والغرب الدعم والتحريض، ودفعاً للأكراد نحو الانتحار، هذا ما رأيناه في الشمال السوري مع الأزمة السورية، وفي العراق في مشروع الدولة الكردية المستحيلة، الذي عمل عليه البارزاني في الشمال العراقي، وكان البارزاني قبل ذلك لم يجد غير طهران لتحميه من داعش، التي كادت أن تسحق الأكراد في أربيل…
ألا يدرك هؤلاء من أكراد أربيل أو الشمال السوري أنّ دولتهم تصطدم بعنف بالأمن القومي للدول الأربع ذات العلاقة: سورية والعراق وإيران وتركيا؟ وأنّ الخلافات مهما بلغت بين تلك الدول والمصالح مهما تباينت، إلا أنها تتطابق عند رفض الدولة الكردية، أما آن للأكراد أن يتعلّموا من كلّ تجاربهم الفاشلة؟ وأن يدركوا أنّ الحلّ لا يكون إلا بالمواطنة والوفاء لأوطانهم؟