اتفاق الترسيم البحري: إعطاء براءة ذمة لـ «إسرائيل» فماذا عن لبنان…!
د. عدنان منصور
أما وقد تمّ الاتفاق بين لبنان «وإسرائيل»، على تحديد المنطقة البحرية بينهما، فإنّ مفاعيل عديدة مهمّة تتأتّى عن الترسيم، ما يدفعنا الى إثارة عدة نقاط أبرزها:
1 ـ إنّ الترسيم ينهي أزمة مع العدو دامت لأكثر من عشر سنوات، كانت على الدوام بمثابة قنبلة موقوتة، معرّضة للانفجار في أيّ وقت، لتشعل حرباً شاملة، لا أحد يمكن له أن يعرف مسبقاً من أين تبدأ، وكيف تنتهي، وما ستخلفه من نتائج مدمّرة، وتداعيات كارثية على الأرض.
2 ـ اتفاق الترسيم البحري الذي أعطى لبنان ما أعطاه من حقوق في منطقته الاقتصادية الحصرية، يوفر أيضاً لـ «إسرائيل» مكاسب أكبر، وحالة من الاسترخاء والهدوء على الأقلّ وهي تستخرج الغاز والنفط من المنطقة البحرية عملاً باتفاق الترسيم، مع يقينها حرص الطرفين اللبناني و»الإسرائيلي» على عدم توتير الأجواء الأمنية، حفاظاً على مصالحهما الحيوية في المناطق الاقتصادية البحرية العائدة لهما. وهذا ما سيدفع بالطرفين للحفاظ «سلمياً»، على الوضع القائم (Status quo) والاستمرار به، وتجنب أيّ استفزاز، أو عمل يتعارض مع نص وروح اتفاق الترسيم.
3 ـ هناك في لبنان من بالغ في «النصر» الذي تحقق على يد الاتفاق، وهناك من قلل كثيراً من شأنه، واعتبره مجحفاً بحق لبنان. إلا انّ هناك ثمة تساؤلات تتعلق بالاتفاق وبالذات خط الطفافات وموقعها، وحقل قانا والتعويض لـ «إسرائيل». إذ لا بدّ من الإجابة الصريحة والواضحة عليها: ماذا عن الوضع القانوني لحقل قانا في الاتفاق، وما مدى شراكة «إسرائيل» في الحقل؟! وهل للبنان الحقّ المطلق لوحده في استثمار الحقل دون موافقة «إسرائيل»؟! وهل سيحصل لبنان على أرباحه كاملة من الشركة، أم انّ الشركة ستقتطع جزءاً من أرباح لبنان لتعويض «إسرائيل»؟!
وماذا عن التعويض فيما إذا كان حقل قانا يشكل امتداداً للبلوك رقم 9؟! وهل ملكية حقل قانا المطلقة تعود للبنان دون قيد أو شرط، وهي ملكية لم يشر اليها الإتفاق! لماذا جعل الاتفاق من الولايات المتحدة ان تكون حكماً بين الطرفين عند حصول خلاف ما بينهما؟! ومتى كان لواشنطن يوماً، في تاريخ الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» موقف واحد نزيه عادل؟! لماذا لم يجعل الاتفاق من التحكيم الدولي، (جزيرة حنيش بين اليمن واريتريا، وطابا بين مصر و»إسرائيل»)، أو من قانون البحار، مرجع الفصل في ايّ خلاف أسوة بالاتفاق الموقع بين قبرص و»إسرائيل»؟!
4 ـ بعد الاتفاق، ستكون «إسرائيل» غير ملزمة بأيّ تعهّد يضمن تنقيب لبنان عن ثرواته في الحقول الغازية والنفطية التابعة لمنطقته الاقتصادية الحصرية، من خلال الشركات التي سيوقع معها للقيام بالاستكشاف، والتنقيب، واستخراج الغاز. إذ لن يكون هناك من مبرّر قانوني بعد ذلك، يسمح للدولة اللبنانية تحميل المسؤولية لـ «إسرائيل»، لا من قريب أو بعيد، إذا ما قرّرت شركات دولية لسبب أو لآخر الامتناع، أو التردّد، أو الاعتذار، عن القيام بعملها في مجال التنقيب، واستخراج النفط والغاز، في المناطق الاقتصادية الحصرية العائدة للبنان.
5 ـ «إسرائيل» بعد الاتفاق، ستكون في حلّ من الأمر تجاه لبنان، حتى وإنْ استخدمت مستقبلاً نفوذها وتأثيرها سراً على شركات عالمية ذات الصلة بالتنقيب، وعبر اللوبيات اليهودية في العالم، ومارست عليها ضغوطها، لدفعها الى عدم التجاوب مع لبنان، والتهرّب من التنقيب بذرائع وحجج واهية (نموذج توتال والبلوك رقم 4). إذ ليس في صالح «إسرائيل» أن يحصل لبنان على التسهيلات اللازمة التي تسمح له بالتنقيب في حقوله قبل الترسيم النهائي للحدود البحرية والبرية مع «إسرائيل»، ومن ثم التوصل الى اتفاقيات أمنية نهائية معه تؤدّي في نهاية المطاف، الى الاعتراف بالكيان «الإسرائيلي» والتطبيع معه!
6 ـ هل ستتوقف ضغوط الولايات المتحدة، وحصارها على لبنان بعد الاتفاق البحري، أم أنها ستذهب بعيداً في ابتزازها الناعم له، من خلال أطراف سياسية داخلية تتناغم معها، بغية تركيز نشاطها على إنهاء حالة الصراع مع «إسرائيل» بأيّ شكل من الأشكال، وبالتالي إبطال أيّ مبرّر لوجود المقاومة ودورها، والعمل على نزع سلاحها في ما بعد!
قد يقول قائل إنّ الاتفاق البحري ليس هو اتفاق سلام او اتفاق هدنة، وهذا صحيح. لكن الاتفاق سيترك الأمور على حالها، وعلى وضعها «السلمي»، وهذا يصبّ في صالح «إسرائيل» التي تريد إبقاء الوضع على ما هو عليه في حدّه الأدنى، دون تعديل، ودون توترات ومشاكل أمنية على حدودها. ولعلّ اتفاق الترسيم البحري يفي بالغرض في هذه الأوقات بالنسبة لـ «إسرائيل»، رغم كلّ الضجيج المصطنع من قبل المعارضة، واتهامات العديد من القادة والسياسيين «الإسرائيليين» داخل الكيان، الذين اتهموا لبيد وحكومته، بالتفريط بـ «حقوق إسرائيل
وثرواتها، وأمنها القومي».
7 ـ للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» تفاوض دولة عربية «إسرائيل»، بصورة غير مباشرة، من موقع القوة، لا من موقع الضعف، من موقع الاقتدار، لا من موقع اليأس والإحباط. كان على المفاوضين اللبنانيين أن يفاوضوا بكلّ حزم وثقة، وهم يستندون الى عامل القوة الذي وفرته المقاومة لهم أثناء التفاوض، وحصّنتهم بها، لرفع منسوب المطالب. لكن هل استطاع المفاوض اللبناني المحصّن بمقاومته، أن ينتزع حقوق لبنان البحرية كاملة؟!
«إسرائيل» فاوضت على حقوقنا، فهل نحن تمسّكنا فعلاً في ما يحقّ لنا كاملاً، أم أننا تنازلنا عن حقوق عديدة لنا لصالح العدو؟!
إنّ أيّ إنسان حرّ عاقل ينظر الى الأمور نظرة موضوعية وحيادية، لا بدّ له من أن يقرّ بالحقيقة الدامغة، وهي أنه لولا المقاومة ووجودها، وجهوزيتها، واستعدادها الدائم، وموقفها الحازم في الدفاع عن حقوق لبنان، والحفاظ على ثرواته، لما استطعنا ان نفاوض العدو الذي لا تتوقف شهيته ونهمه الواسع عن سياسة القضم والضمّ، والتهام حقوق الآخرين. فلولا وجود المقاومة وتهديدها له، لفرض العدو الأمر الواقع على لبنان، غير عابئ ولا مكترث بتفاوض يجريه معه، او باتفاق يوقعه.
لقد واجهت الدولة أثناء مفاوضاتها عدواً مراوغاً، مماطلاً وخبيثاً، فيما المقاومة كانت سنداً لها. فهل استندت الدولة اللبنانية فعلاً الى ما تمثله وتوفره المقاومة من دعم وقوة لها، عندما كانت تفاوض «الإسرائيلي»، وتتمسك بحقوق لبنان! انّ الاتفاق جاء ليعطي العدو من ثروات لبنان أكبر بكثير مما أعطاه لصاحب الحق. وهذا لم يكن ليتمّ لولا الضغوط الأميركية الناعمة، على المتورّطين، في ملفات فساد خطيرة داخلية وخارجية تطالهم مباشرة، والتلويح لهم بكشفها وملاحقتهم حين تدعو الحاجة.
8 ـ لا بدّ من الحذر مستقبلاً، لأنّ الأمور لن تتوقف عند حدود اتفاق الترسيم البحري الذي يطرح علامات استفهام عديدة، لجهة ما قد يترتب على لبنان من موجبات مبهمة إنْ لم نقل مقلقة.
ففي جعبة واشنطن و»إسرائيل»، الكثير الكثير من الأهداف، والسياسات، والإجراءات المبيّتة والمتعلقة بلبنان. فالثنائي الأميركي «الإسرائيلي»، لن يكتفي بالاتفاق حول الثروات البحرية، حيث لم يستطع أخذ لبنان الى المكان الذي يريده، وهو تطبيع العلاقات مع العدو، وإنهاء حالة الصراع معه.
لذلك ستستمرّ الضغوط على لبنان، مع ما يرافقها من سياسات الابتزاز، والتهديد، والتهويل بغية حمله على الرضوخ، والتوصل الى الهدف الأساس، الذي يريده الثنائي الأميركي «الإسرائيلي» وهو يتعاطى على الساحة اللبنانية مع من هو في خدمة السياسة الأميركية، وعلى استعداد تامّ لتلبية رغبات واشنطن وإملاءاتها، أياً كانت نتائجها السلبية على لبنان وقضاياه المصيرية.
9 ـ إذا كان اللبنانيون يتطلعون الى استخراح الثروة البحرية التي ينتظرونها بفارغ الصبر، إلا أنّ هذا الاستخراج سيستغرق عدة سنوات كي ينجز. كما انّ هواجسهم، وعدم ثقتهم في المنظومة الفاسدة، تجعلهم يتساءلون عن الضمانات المستقبلية الأكيدة، وشفافية القرارات التي ستتخذها الدولة، لحفظ ثروتهم وثروة الأجيال القادمة، حيث شبكة رأس المال، وحيتان المصارف، والاحتكارات، والمافيات السياسية المتجذرة في مؤسسات الدولة،
التي نهبت شعباً، وأفلست بلداً، لا ثقة بها بعد اليوم، وبالتالي لا يمكن أن تؤتمن على ثروات الوطن وحقوق شعبه.
10 ـ لا يكفي مقاومة العدو على الحدود، والتصدّي لخطره الخارجي. ولا خوف على لبنان منه بوجود مقاومة تحمي وتردع، لكن الخوف على الداخل جراء انهيار المؤسسات، وتفشي الفساد وانعدام الأخلاق، وتفكك المجتمع.
إنّ الأولوية اليوم للمقاومة، تكمن في مواجهة طبقة مفسدة لا مثيل لها، دمّرت وطناً وشعباً. لذلك أحوج ما يكون اليه اللبنانيون هو الجهاد الأكبر، الذي يركز على هدف رئيسي، وهو اقتلاع المنظومة الفاسدة من جذورها، وتحرير لبنان من طغيانها وفجورها، مثل ما تحرّر من نير الاحتلال الصهيوني على يد المقاومين.
إنه اتفاق دولي… والآتي أعظم!