هل يحقق بوتين نبوءة بريجنسكي…؟
خضر رسلان
زبيغنيو بريجنسكي مؤلف كتاب الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم؟ الصادر في العام 2004. عمل مستشاراً للأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق (جيمي كارتر)، ويُعتبر من الشخصيات الأميركية القليلة التي تتمتع بعقلية استراتيجية، وكان له دور بارز في رسم الشؤون السياسية والأمنية الاستراتيجية.
وفي كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» ركز فيه على أنه لا يجوز للولايات المتحدة أن تسمح لأيّ دولة أخرى بأن تصبح القوة المهيمنة في أوروبا وآسيا.
وفي عام 2011 ألّف كتاب «الرؤية الاستراتيجية.. أميركا وأزمة القوة العظمى» قال فيه إنّ قوة الولايات المتحدة في الخارج مهمة لاستقرار العالم.
خلاصة ما توصل إليه (بريجنسكي) يشير إلى أنّ الأمن القومي الأميركي لا ينفصل عن الأمن العالمي، وأنّ الأمن الذي تنشده الولايات المتحدة لا يمكن تحقيقه إلا إذا تمكّنت من إنشاء نظام عالمي بشكلٍ تعاونيٍ وعبر الشراكة، فالفكر الاستراتيجي لبريجنسكي يعتمد بالدرجة الأولى على الاعتراف بالوقائع ويدعو الى فتح قنوات التعاون مع قوى صاعدة في العالم كالهند والبرازيل وتركيا، وأخرى نافذة مثل الصين وروسيا. ويلفت (بريجنسكي) في كتابه إلى «أن بروز حركة جامعة أوروبية وأخرى آسيوية معاديتين لأميركا قد يحول دون تشكيل إطار العمل اللازم للأمن العالمي، معبّراً عن تخوّفه من خسارة أميركا لعظمتها وسطوتها ونفوذها إذا استمرت في قيادة العالم بصورة أحادية، لذا يجب إشراك قوى فاعلة على قاعدة الشراكة والتعاون والتمسك بضرورة ان تهيمن الولايات المتحدة.
وعليها أن تقوم باختيار تاريخي، والإجابة على سؤال أساسي وهو: هل ستسعى أميركا إلى السيطرة على العالم أو قيادته (من خلال المشاركة)؟
دغدغ سقوط الشيوعية والاتحاد السوفياتي أفكار العديد من المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين الذين يخالفون ما ذهب اليه بريجنسكي من اعتماد سياسة التعاون والشراكة الى انتهاج سياسة الاحتواء والهيمنة، بل أشاروا الى ضرورة منع تشكل فضاء أوراسي متعاون ومتجانس من خلال انتهاج سياسة العزل والاحتواء والتطويق لروسيا وذلك عبر دول كانت جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد السوفياتي، الى ذلك ومن خلفية قيادتها الأحادية للعالم انتهجت السياسة الاحتوائية ذاتها مع الصين والعديد من الدول ومن بينها إيران.
انّ ما يحدث بين أميركا وروسيا على أرض أوكرانيا يمثل حرباً باردة على مسارح ساخنة حيث انّ روسيا تتبنّى في مواجهة خصومها جنباً الى جنب إدارة عملياتها العسكرية الجارية والديبلوماسية الخطوة بالخطوة مبارزة سياسة الغطرسة والأحادية الأميركية من خلال استراتيجيات مدروسة تعزز من خلالها موقعها في النظام الدولي كقوة كبرى لا يمكن تهميشها او تهشيمها فضلاً عن التطاول على أمنها القومي وبشكل خاص في محيطها الحيوي، وبالرغم من كلّ ردود الفعل الأميركية الغربية الشديدة اللهجة اتجاه موسكو إلا أنّ هذه التصريحات بدت لدى الحكومة الأوكرانية تخلياً أميركياً غربياً واضحاً.
انّ سياق الأحداث التي سبقت ما يجري في أوكرانيا نتيجة لانتهاج السياسة الأحادية القطبية من انتكاسات وهزائم سواء كان في العراق او أفغانستان فضلاً عن العجز من إسقاط الدولة السورية، وهذا ما أدّى الى تهشيم الهيبة الأميركية، وبالرغم من ذلك استمرت أميركا في سياسة الهيبة والسطوة بل عملت إضافة الى ذلك على السير في تطويق روسيا وأيضاً محاولات مبتكرة ومتكرّرة لهيئة الأرضية من أجل عزل الصين هذا في الوقت الذي استمرّ الحصار على إيران، نتج عن ذلك تعزيز أفق التعاون بين هذه الدول الثلاث حيث مصالحها المشتركة المباشرة تكمن في اضعاف الغطرسة والهنجعية الأميركية.
يُعتبر التعاون بين دول روسيا والصين وإيران تطوراً جيوسياسياً مهمّاً سيلقي بلا شكّ بظلاله على الساحة الدولية حيث تكامل هذه القوى الثلاث يكون بلا شك عاملاً حاسماً في ضرب الأحادية القطبية الأميركية لتميّزها بقدرات كبيرة ومتنوعة. فالقدرات العسكرية الروسية غير المحدودة، الى الفائض الاقتصادي والتكنولوجي الأسطوري الصيني، يُضاف اليه القوة الإيرانية الصاعدة بمواردها النفطية والغازية فضلاً عن موقعها الجغرافي المميّز الذي تتحكّم فيه بممرات مائية مهمة وتعتبر منفذاً آمناً ومهماً للمياه الدافئة التي تستفيد منها روسيا إضافة الى موقعها ضمن مشروع الصين الحيوي حزام الطريق الذي يدخل في إطار استراتيجيتها التي ترمي الى توسيع نفوذها وتعمل ببطء ولكن برؤية مستقبلية ثابتة تعتمد على النفس الطويل.
وفي الخلاصة فهل ينجح بوتين في قيادته الحرب الأوراسية في تحقيق نبوءة بريجنسكي، والتي أشار فيها الى انّ السيطرة على أوراسيا التي هي قلب العالم وقيام تعاون روسي صيني إيراني سوف يجعل أميركا خارج القارة الآسيوية» وهذا بلا شك سيكون عاملاً يمهّد الى أفول الامبراطورية الأميركية تحقيقاً للسنن التاريخية التي تحتم سقوط أنظمة التسلط والهيمنة.