kayhan.ir

رمز الخبر: 147437
تأريخ النشر : 2022March04 - 20:28

أزمة أوكرانيا تثبت: حياد لبنان أمر غير قابل للتطبيق

العميد د. أمين محمد حطيط

منذ فترة من الزمن يروّج في لبنان مع اندلاع العدوان على سورية بحرب كونية قادتها الولايات المتحدة، ابتدع لبنان شعار النأي بالنفس حتى يتنصّل من موجباته التي يفرضها العديد من المعاهدات المعقودة بينه وبين الدولة السورية ويؤمّن لأميركا ما تبتغيه من حصار.

 شعار رفعته آنذاك الحكومة التي كان يرأسها نجيب ميقاتي رئيس الحكومة الحالي الذي يجاهر اليوم بانّ «السعودية هي قبلته السياسية كما هي قبلته الدينية»، رغم انه يُصرّ أو يتظاهر بأنه ملتزم بسياسة النأي بالنفس وهو كلام تنفيه الوقائع.

بيد أنّ الشعار المرفوع الذي يوحي بأنّ لبنان لن يكون مع طرف دون آخر في الحرب على سورية، هذا الشعار لم يطبّق في الميدان من قبل أحد فلا الحكومة عملت به ولا مكونات السياسة اللبنانية احترمته، حيث انّ الحكومة انصاعت لأوامر الغرب بالقيادة الأميركية في أكثر من ملف يعني سورية، بخاصة في مسألة النازحين السوريين كما وفي مسائل مالية وسياسية أخرى ولم يسجل من النأي بالنفس سوى بعض المواقف اليتيمة التي اتخذها مندوب لبنان في الجامعة العربية وما عدا ذلك فقد كان انحياز لبنان الرسمي الى خصوم الحكومة السورية واضحاً من غير التباس.

أما اللبنانيون فقد كان انقسامهم واضحاً أيضاً حيال المسألة، ففي حين ذهب فريق منهم للقتال الى جانب الدولة السورية قتالاً رأى فيه انه من طبيعة العمل الاستباقي للدفاع المشروع عن النفس، فقد التزم أطراف آخرون يعملون بأوامر وإملاءات أميركية موقع العداء للحكومة السورية ونصرة من يقاتلها من مجموعات داخلية مسلحة او إرهابية استقدمت من الخارج او حتى تشكيلات عسكرية احتلت أرضاً سورية، كما هو حال القوات الأميركية والتركية. مواقف متناقضة أظهرت انّ الانقسام عمودي حادّ بين اللبنانيين دون أن يكون هناك بين الطرفين مساحة مشتركة للتفاهم.

في ظلّ هذا الوضع الخلافي أطلق البطريرك الماروني الدعوة الى حياد لبنان وأيّده في دعوته معظم الأطراف الذين جاهروا بالعداء للدولة السورية والعداء للمقاومة التي وقفت الى جانب سورية في حربها الدفاعية ضدّ الإرهاب والاحتلال الأجنبي لأراضيها، وكان بديهياً أن تنظر المقاومة الى الدعوة هذه بعين الريبة والحذر خاصة أنها ترى في سلوك من أطلقها ومن أيّده كامل الانحياز الى الغرب بقيادة أميركية وكامل الانصياع للإملاءات الأميركية وكامل الانبطاح أمام دول الخليج المنصاعة أصلاً لأميركا والتي تنفذ عدواناً تدميرياً على اليمن.

في ظلّ هذا المشهد انفجر الوضع في أوكرانيا وبدأت روسيا بتنفيذ عملية عسكرية خاصة عبر حدودها، عملية حددت أهدافها بأنها ذات طبيعة دفاعيّة من أجل ضمان حياد أوكرانيا وعدم تحوّلها الى منصة للحلف الأطلسي الذي يجاهر بالعداء لروسيا وبأنها لا تنوي احتلالاً للدولة تلك بل جلّ ما تريده ضمان أمنها القومي الذي ينتهك بالخطط الأطلسية بقيادة أميركية. أما الغرب فقد نظر الى العملية العسكرية الروسية بأنها عدوان موصوف، وأنه سيواجهه بشتى الوسائل السياسية والإعلامية والاقتصادية وتقديم المساعدات العسكرية لحكومة كييف من غير التورّط بإرسال تشكيلات من جيوش الغرب خشية الانزلاق الى حرب عالمية أطرافها دول نووية.

لقد ظهر الصراع في أوكرانيا وحولها انه صراع بين روسيا التي تبرّر أعمالها العسكرية بحق الدفاع عن النفس بأسلوب استباقي وبين الغرب بقيادة أميركا التي جهدت لاستدراج روسيا الى هذا الموقع من أجل الإجهاز عليها وتفكيكها بتكرار ما قامت به ضدّ الاتحاد السوفياتي بعد احتلال أفغانستان. ورغم هذا الوضوح في طبيعة الصراع فإنّ لبنان سارع وفي الساعات الأولى لبدء العملية العسكرية الروسية، لإدانة روسيا والمطالبة بوقف عمليتها ثم صوّت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح مشروع قرار أميركي أوروبي اعتمد ضدّ روسيا، مؤكداً في مواقفه بأنه ليس على الحياد ولا يتقيّد بما ورد في البيان الوزاري للحكومة من شعار النأي بالنفس، فهل أصاب لبنان أم أخطأ في مواقفه؟ وهل الحياد ممكن والنأي بالنفس مستطاع؟

من البديهي أن يكون لبنان وهو من الدول المؤسسة للأمم المتحدة صاحب سياسة تدعو الى الأمن والسلام وحلّ النزاعات بالطرق السلميّة بعيداً عن الاحتكام الى القوة والسلاح مع ما يستتبعه من قتل وتدمير وتشريد وهو الدولة التي عانت ولا تزال تعاني من العدوان والاحتلال «الإسرائيلي» وعلى أرضها وحقوقها وسيادتها. ولكن على لبنان قبل ان يتخذ موقفاً من صراع دولي أن يتحقق ويمحّص انعكاسات موقفه وتداعياته عليه وعلى سياسة الحياد التي يدّعيها. ولكن هل يستطيع لبنان أن يصمد أمام الضغوط الأجنبية عامة والأميركية ـ الأوروبية ـ الخليجية خاصة؟

لقد أثبتت التجربة في لبنان أنّ القول شيء والفعل والممارسة شيء آخر، والأمر رهن بمن يتولى زمام الأمور في البلاد، فإذا تذكرنا أيام تلت طرد «إسرائيل» من جنوب لبنان في العام ٢٠٠٠ وكم صمد لبنان أمام الضغط الأميركي الرامي لحمله على التنازل امام «إسرائيل» عن حقوقه في أرضه، لوصلنا الي نتيجة مفادها انّ لبنان المتمسك بحقه وبجيشه وبمقاومته قادر على مواجهة الضغوط الأميركية، فقد حاولت مادلين أولبريت وزيرة الخارجية الأميركية وعبر مكالمات هاتفية لمدة أربع ساعات ان تثني لبنان عن مواقفه ولم تستطع وانتزع لبنان حقه في أرضه كما رآه.

بيد انّ نتائج الضغط الأميركي على لبنان في المسألة الأوكرانية جاءت بنتيجة معاكسة، حيث إنّ هاتف او زيارة من سفيرة أميركا الى المسؤولين أنتجت بيان إدانة لروسيا بسرعة قياسية سبق لبنان فيها كلّ الدول العربية ومعظم الدول الأوروبية، ثم كانت زيارة أخرى حملت لبنان على دعم الموقف الأميركيّ في مجلس الأمن ضدّ روسيا.

وهنا قد يروق للبنانيين الذين اتخذوا هذه المواقف من غير العودة الى مجلس الوزراء الذي هو حسب الدستور السلطة التنفيذية التي ترسم وتنفذ سياسات الدولة، قد يروق لهم القول بأنّ موقف لبنان منسجم مع مبادئه الرافضة للعدوان والاحتكام للقوة في حلّ النزاعات. ولكن أيضاً من مبادئ لبنان دعم الحق المشروع بالدفاع عن النفس، وهنا يجب ان نأخذ بالاعتبار الهواجس المشروعة لكلّ من الطرفين، الامر الذي لم يعمل به لبنان بنتيجة الضغط الأميركي.

هذه الوقائع تفضي بنا الى نتيجة واحدة وهي انّ الحياد المطلوب هو أمر غير مضمون في بلد كلبنان في ظلّ ضعف الدولة ووهنها ووجود ساسة لديهم مصالح يخشون عليها، فالحياد موقف لا يمكن ان يتخذه إلا قوي لا يخشى تهديداً ولا يستجيب لإملاء، أما الضعيف الخائف على مصلحة مالية او سواها، فإنه ينظر الي مصلحته ويتخذ الموقف الذي يحفظها دون التوقف عند تأثير ذلك على الدولة والوطن الذي يتولى مسؤولية فيه، وأخيراً نذكر بشروط الحياد التي هي الى جانب القوة الذاتية، هناك القبول الخارجيّ فهل يقبل الخارج بحياد لبنان ويدعه وشأنه أم يريد لبنان منصة ومسرحاً وقاعدة لعملياته وسياسته؟ الواقع يثبت انّ من يطلب حياد لبنان هو كمن يبحث عن النجوم في رابعة النهار. فتحوّلوا الى امتلاك القوة والبحث عمن يتولى الشأن العام ويقدّمه على أموره الخاصة.