ألمانيا في معادلة الحرب الأوروبية: لاعب محلّي أم قطب عالمي جديد؟
محمد أ. الحسيني
يكاد معظم التحليلات المتعلّقة بتشريح الخارطة السياسية والعسكرية للمواجهة الروسية - الغربية، يجمع على توقّع خلاصة المواجهة بتشكيل نظام عالمي جديد؛ وتنطلق هذه التحليلات من فرضيات تاريخية لها علاقة بما سبق الحربين العالميتين وما تلاهما تارةً، أو بتغيّر الميزان الجيوستراتيجي بين الشرق، ولا سيّما روسيا والصين، وبين الغرب الذي تتزعّمه الولايات المتحدة الأمريكية ومعها أوروبا وحلف شمال الأطلسي تارة أخرى، ويبرز في طيّات هذه الفرضيات بحث مباشر في الآثار الإقتصادية والمالية التي قد تنتج عن تطوّر مراحل الحرب الراهنة، والتي لن تطال روسيا بقدر ما ستترك ندوبها المباشرة على الدول الأوروبية المضطربة أصلاً، وما أوكرانيا إلا الخطوة الأولى في مسار دراماتيكي يتغيّر تصعيداً أو تهدئة بتغيّر المجريات السياسية والميدانية.
نظام أمني يعيد تقسيم العالم إلى محاور
ولم ترسم التحليلات معالم النظام العالمي الجديد، إلا من باب أنه يكرّس تعدّدية القطب الذي تؤمن به روسيا ـ بوتين، وتعمل لإرسائه بالتعاون والتكافل مع الصين، الجامحة بقوة الموقف في معترك الصراع الدولي في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها؛ خصوصاً أن كل ما جرى حتى الآن متوقّع في سياق الفعل وردّ الفعل، سواء في مبادرة روسيا إلى "قضم" أوكرانيا للحيلولة دون تحويلها إلى موقع أمريكي متقدّم على الحدود الروسية، فضلاً عن أهداف أخرى لموسكو تتصّل بتفاصيل المعادلة الدولية ودورها في الأمن الإقليمي، أو في رزم العقوبات "القاسية جداً" التي فرضها الحلف الأمريكي - الغربي، وهي عقوبات مضى بها هذا الحلف ضد روسيا منذ سنوات، وأضاف اليوم جرعات كبيرة عليها.
لكن يمكن تلمّس تغيّرات محتملة من خلال مواقف أطراف الصراع، وأبرزها ما ورد على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي احتمل استمرار الأزمة لعقد من الزمن، وكان واضحاً بشكل صريح في كلمته أمام البرلمان الأوروبي حين دعا إلى "تأسيس نظام أمني جديد في أوروبا مع حلف الناتو لمواجهة روسيا"، فضلاً عن دعوته "الشركاء الأوروبيين إلى إنشاء تحالف جديد مع القارة الإفريقية"؛ ومن البديهي أن يستدعي النظام، الذي دعا إليه ماكرون، من الدول الأوروبية إلى تموضع سياسي ـ عسكري للدول القويّة في القارة العجوز، لتأخذ دورها كعنصر اشتباك متقدّم حيال أي اجتياح لقوى الشرق، وهذا ما يعزّز استعادة فرضية تقسيم العالم إلى محاور مواجهة، ويسقط أكذوبة السلام العالمي الأمريكية.
ألمانيا على خط التصعيد الناري
ويمكن أن نرصد معطيين جديدين برزا على مسرح الحدث الدولي، أولهما: إرهاصات تشكيل جيش أوروبي، مدعّم بقوات من المرتزقة على غرار نموذج داعش، أو كما أسماه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي "الفيلق الدولي"، يأخذ على عاتقه مواجهة روسيا مبدئياً، بانتظار ما سيرسو عليه ميزان التحالفات الضرورية بفعل تطوّرات الدفع الميداني، وهذا "الفيلق" يترجم عمليّاً واحداً من أشكال النظام الأمني الذي تحدّث عنه ماكرون، وستكون أوكرانيا فيه رقعة النار الأولى.
أما المعطى الثاني فهو الدخول الناري لألمانيا على خط الأزمة، فمنذ أن تجدّدت الشرارة الأولى لأزمة أوكرانيا بدأ الموقف الألماني يتدرّج في منحدر التورّط المباشر، وكان الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير أول من بادر إلى كسر "الخجل" الألماني بتحميله المسؤولية المباشرة لروسيا عن "خطر اندلاع صراع عسكري في أوروبا الشرقية"، ليكمل المستشار "الحاكم" أولاف شولتز الموقف في خطابه أمام "البوندستاغ" بلغة أسقطت كل التحفّظات العسكرية والأمنية التي حافظت عليها برلين على مدى سبعة عقود، وأعاد فيه ألمانيا إلى قلب التشكيل العسكري الأوروبي من بابه الواسع.
تصنّف ألمانيا بأنها البلد المصدّر الثالث للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا، والقوة الإاقتصادية الأولى في أوروبا والرابعة في العالم، ولكنها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تشارك في أي حرب أو ترسل قوات إلى خارج الحدود أو تزوّد طرفاً ما بالأسلحة في حالة نزاع، وهي قبل أسبوع فقط من المواجهة الروسية - الغربية، رفضت طلباً من إستونيا السماح لها بإرسال أسلحة ألمانية إلى أوكرانيا، كما كانت ألمانيا من المتحفظّين على فرض حظر على تداولات روسيا المالية، ومن هنا فإن إعلان شولتز عن تقديم أسلحة لأوكرانيا، يعدّ تحولاً جوهرياً في سياسة برلين، كما أن المنعطف الأبرز جاء في إعلانه تخصيص مبلغ 100 مليار يورو في ميزانية العام 2022 من أجل الإستثمارات العسكرية، ليصل حجم الإنفاق العسكري إلى ما نسبته 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما كانت واشنطن ودول أخرى تحفّز برلين على القيام به دون جدوى.
برّر شولتز هذا المعطى الجديد ذلك بالقول إن "الهجوم الروسي على أوكرانيا يمثّل نقطة تحوّل في تاريخ القارة الأوروبية.. ويدمّر نظام الأمن القائم في أوروبا منذ قرابة خمسين عاماً"، وأضاف: "علينا أن نحمي حريتنا وديمقراطيتنا.. نحن نحتاج إلى الطائرات التي تحلّق والسفن التي تحمي والجنود المجهّزين على أحسن وجه".
ألمانيا والموقع الحرج
ما الذي تغيّر حتى اندفعت ألمانيا إلى هذه الخطوة المحورية؟! وهل جاء التصعيد الألماني كردّة فعل إزاء المواقف التي تتّهم برلين بالتخاذل أمام روسيا حفاظاً على مصالحها؟! أم انصياعاً للضغوط الأمريكية عليها؟! أم أن ألمانيا اطمأنت إلى أن تطورّات الأزمة لن تؤدي لتكبيدها خسائر مالية واقتصادية فضلاً عن العبء الاجتماعي الذي سينشأ عن توقف واردات الغاز الروسي إليها؟! أم أن رفع روسيا لمستوى المواجهة إلى حدّ وضع قوات الردع الستراتيجي قيد التأهّب حفّز ألمانيا لتأخذ دورها في منظومة الدفاع الأوروبي؟!
كل هذه الأسئلة وغيرها جائز في تحليل خلفيات الموقف الألماني، ولعلّ الأجوبة تكمن في مواقف شولتز التي سبق ذكرها، والذي تحدّث أيضاً عن ضروة الإسراع "في بناء الطاقة المتجدّدة.. وبناء محطات لتخزين الغاز الطبيعي المسال في المناطق الشمالية لألمانيا"، إلا أن هناك دفعاً أقوى مردّه إلى إتجاه متغيّر لدى أصحاب القرار في برلين، وهو أن الوقت حان لكي تأخذ ألمانيا موقعها في المعادلة الدولية دون أن تكون مرتهنة لأحد إلا من موقع الندّية، وهذا ما سبقتها إليه كل من الصين واليابان بنسبة أقلّ، فضلاً عن أن أوروبا باتت وديعة ألمانية بعد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، ومن غير المنطقي أن تبقى برلين على هامش القرار الدولي كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية، وألا تكون حجر زاوية في أي نظام عالمي جديد مزمع تشكيله بفعل الحرب الجارية على الأرض الأوروبية.
ألمانيا القطب الجديد في النظام العالمي
من المرجّح أن تتوسّع ألسنة اللهب لتتجاوز مناطق شرق أوروبا، نظراً للفشل المتوقّع في التوصل إلى تسوية تمنع خطر الحرب الشاملة، فلا روسيا ستتراجع عن تحقيق أهدافها، ولا واشنطن ستتخلّى عما تراه فرصة سانحة لإضعاف الخصم الروسي وإخضاعه، وأوروبا ستكون الخاسر الأكبر في كل الحالات، ومن هنا ترى ألمانيا، التي تفضّل أن تكون أوكرانيا خارج القارة العجوز، أن الوقت المناسب قد حان لإطباق سيطرتها على أوروبا كقوة مهيمنة، وتفرض نفسها في النظام العالمي الجديد المرتقب، كقطب أوروبي فاعل إلى جانب القطب الأمريكي غرباً والقطب الروسي ـ الصيني شرقاً، ووفق الفهم الألماني لا يمكن لأوروبا التخلّي عن الحليف الأمريكي كما لا تستطيع معاداة الجارين الروسي والصيني، وهكذا تلعب ألمانيا دورها في تشكيل السياسة الغربية تجاه روسيا، وتكون في الوقت نفسه حجر الرحى الذي يعيد ضبط توازن النظام الدولي.. ويبقى السؤال: ما هو موقع إيران وتركيا والدول العربية في هذا النظام؟! للحديث صلة.