لماذا كُل هذه الضجّة الأوروبيّة الإسرائيليّة بسبب إنتاج إيران معدن اليورانيوم؟ هل باتت على بُعدِ أشهُرٍ من إنتاج رؤوس نوويّة فِعلًا؟ ما هي الرّسالة التي أرادت توجيهها من خِلال مُناورتها العسكريّة الأخيرة وصواريخها بعيدة المدى؟
بعد إبلاغ السّلطات الإيرانيّة الوكالة الدوليّة للطّاقة النوويّة أنّها بصدد إقامة مصنع لإنتاج معدن اليورانيوم، واعتِراف مسؤولين في إدارة جو بايدن الجديدة بإجراء اتّصالات سريّة وهادئة مع نُظرائهم الإيرانيين، تتعاظم التّهديدات والضّغوط الأوروبيّة بتَحريضٍ إسرائيليٍّ لوقف هذه الخطوة الإيرانيّة لوقف إنتاج معدن اليورانيوم لأنّها تتنافى مع شرط الالتِزام ببُنود الاتّفاق النووي، ويُمكن أن تُؤدِّي إلى إنتاج قنابل نوويّة.
الرّد الإيراني برفض هذه الضّغوط والمطالب، خاصّةً من الدّول الثّلاث: بريطانيا وفرنسا وألمانيا، جاء سريعًا، مع التّأكيد في الوقت نفسه أنّ إنتاج معدن اليورانيوم لا يتناقض مع هذا الاتّفاق لأنّه جاء لأغراضٍ سلميّةٍ صِرفَة.
القلق الأوروبي المُتصاعِد يأتي نتيجة تَوصُّل الدّول الأوروبيّة الثّلاث المذكورة آنفًا إلى قناعةٍ بأنّ انسِحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب من الاتّفاق النووي عام 2018، وفرضها عُقوبات اقتصاديّة خانقة على إيران، أعطى نتائج عكسيّةً تمامًا من حيثُ إتاحة الفُرصة لها لإنتاج أسلحة نوويّة في أقل من عام، بعد عودتها لتخصيب اليورانيوم بمُعدّلاتٍ مُرتفعةٍ بحُدود 20 بالمِئة وربّما أكثر، والتَّحلُّل من كُل الالتِزامات المَفروضةِ عليها بمُقتَضاه.
إنتاج معدن اليورانيوم يُمكِن، وحسب آراء الخُبراء، استخدامه في أغراض مدنيّة وعسكريّة في الوقت نفسه، ويُعتَبر المُكوّن الأساسي لإنتاج قنابل نوويّة إلى جانب اليورانيوم المُخَصَّب بمُعدّلاتٍ مُرتفعةٍ، الأمر الذي كان له وقع الصّاعقة على الدّول الأوروبيّة وزيادة ضُغوطها على إيران، وعلى إدارة الرئيس بايدن في الوقت نفسه للعودة إلى المُفاوضات، للتَّوصُّل إلى عودة التِزام الجانبين الإيراني والأمريكي بنُصوصِه.
الخُطورة في هذه المسألة، أيّ العودة إلى الاتّفاق النووي، تَكمُن في الشّروط الأوروبيّة الجديدة التي عبّر عنها جان إيف لورديان، وزير الخارجيّة الفرنسي، عندما قال في مُقابلةٍ تلفزيونيّةٍ أمس "إنّ إحياء الاتّفاق النّووي لا يكفي، ولا بُدَّ من إجراء مُحادثات جديّة مع طِهران بشأن صواريخها الباليستيّة، وأنشطتها الإقليميّة”، مُجَدِّدًا اتّهامه لإيران بالسّعي لامتِلاك أسلحة نوويّة.
ما يطرحه وزير الخارجيّة الفرنسي ليس شُروطًا أوروبيّة وإنّما مطالب إسرائيليّة أيضًا، لتجريد إيران من درعها الدّفاعي الرّئيسي، أيّ منظوماتها الصاروخيّة والطّائرات المُسيّرة، وحِرمانها من أذرعها الحليفة الإقليميّة الضّاربة التي باتت أحد أقوى أسلحتها، ونحنُ نتحدّث هُنا عن "حزب الله” في لبنان، و”أنصار الله” في اليمن، و”الحشد الشعبي” في العِراق، وفصائل المُقاومة الفِلسطينيّة في قِطاع غزّة.
قد يُجادل البعض بأنّ رفع المطالب هو مُمارسة مألوفة في فنّ التّفاوض، والمُثلّث البريطاني الفرنسي الألماني كان شريكًا في المُفاوضات التي تتوجّت بالوصول إلى الاتّفاق النووي، وهذا صحيح، ولكنّ الصّحيح أيضًا أنّ محور المُقاومة الذي تتزعّمه إيران بات أقوى ممّا كان عليه الحال قبل عشر سنوات، ولن تَنطَلِي عليه مِثل هذه الحِيَل والضّغوط.
دولة الاحتِلال الإسرائيلي لا تكتفي بهذه الشّروط التعجيزيّة والمُهينة لإيران في الوقتِ نفسه، وسمعناها تتجرّأ على المُطالبة بضرورة مُشاركتها في أيّ مُفاوضات قادمة حول اتّفاق نووي جديد مع طِهران، وباتت بعض الدّول الخليجيّة مِثل المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات تُطالب بالشّيء نفسه أيضًا، ومن المُؤكّد أنّ كُل هذه المطالب لن تَجِد آذانًا صاغيةً.
الرّد الإيراني على هذه الضّغوط جاء مُزدَوجًا أيّ من شقّين رئيسيين:
الأوّل: إجراء إيران مُناورات ضخمة بحريّة وجويّة بدأت قبل أيّام، جرى الكشف فيها عن صواريخ باليستيّة يَصِل مداها إلى 1800 كيلومترًا تَصِل إلى العُمق الإسرائيلي، مُزوّدة بِرُؤوسٍ تفجيريّةٍ ضخمة، ورادارات حديثة تُمَكّنها من تَجنُّب الرّصد الأرضي والقُبب الحديديّة، وكذلك غوّاصات قادرة على إطلاق صواريخ دقيقة، وطائرات مُسيّرة مُتقَدِّمة جدًّا.
الثّاني: تأكيد الجِنرال أمير علي حجي، قائد القوّة الجوفضائيّة في الحرس الثوري الإيراني، أمس بأنّ القوّات الإيرانيّة قادرةٌ على ضرب جميع القواعد الأمريكيّة في المِنطَقة تدميرها في لحظات، وإطلاق 500 صاروخ في آنٍ واحِد.
لا نَعرِف ما إذا كان الجانبان الأوروبي والإسرائيلي قد استوعَبا مضمون هذه الرّسالة التي أرادت إيران توجيهها لها من خِلال هذه المُناورات العسكريّة، ولكن ما نَعرِفه أنّ إيران، اتّفق معها البعض أو اختلف، باتت قوّةً إقليميّةً عُظمى تملك القُدرات الدفاعيّة اللّازمة للدّفاع عن نفسها، مُضافًا إلى ذلك تأكيد قِيادتها بأنّها إذا عادت إلى المُفاوضات فلن تعود بالشّروط الإسرائيليّة المُغلّفة بغَطاءٍ أوروبيّ، وتتنازل بالتّالي عن صواريخها الباليستيّة وأذرُعِها الإقليميّة المُسلّحة الحليفة، لأنّها تعلّمت من تجارب عِراقيّة وليبيّة مُماثِلة، وأوّل دُروسها عدم الوثوق بالغرب وتعهّداته، وثانيها وأهمّها أنّ الصّمود أقلّ كُلفَةً بكثيرٍ من الاستِسلام.
"رأي اليوم”