أميركا في نفق الفوضى والانقسام.. ماذا يتغير؟
سركيس ابوزيد
انها أهم وأغرب انتخابات أميركية وأكثرها إثارة وتشويقًا.. ومن مفارقاتها وتداعياتها حيازة الرئيس المنتخب جو بايدن على أعلى نسبة أصوات بين كل الرؤساء الأميركيين، وهو ثاني رئيس أميركي كاثوليكي بعد جون كينيدي الذي اغتيل في الستينيات ولم يكمل ولايته.
الرئيس دونالد ترامب هو ثالث رئيس أميركي يفشل في الفوز بولاية ثانية بعد جيمي كارتر (أواسط السبعينيات) وجورج بوش الأب (بداية التسعينيات). ومع ذلك حصل ترامب على 70 مليون صوت موسعًا قاعدته الشعبية، ومع رقم يفوق الذي أوصله الى البيت الأبيض عام 2016.
أما كمالا هاريس، فهي أول امرأة تُنتخب نائبًا للرئيس. ومع تقدم بايدن في العمر يصبح لموقع نائب الرئيس أهمية زائدة، ويصبح ترشيح هاريس من قبل الحزب الديمقراطي لرئاسيات 2024 أمرًا مطروحًا مع استبعاد ترشيح بايدن.
خسارة دونالد ترامب جاءت ثقيلة لم يستوعبها ولم يصدقها ولم يستسلم لها بسهولة. وفيما يقضي التقليد بأن يتصل المرشح الخاسر بالآخر الفائز لتهئنته، لم يتصل ترامب ببايدن، ولم يعترف بالهزيمة، ولا يتوقع أن يقدم على خطوة كهذه قبل استنفاد الخيارات المتاحة أمامه لقلب النتيجة، أو على الأقل للطعن في شرعيتها.
الا أن إثبات التزوير في ولاية أو أكثر، حتى لو حصل، لا يغير نتيجة الانتخابات ولا يوصل ترامب الى نتيجة. فهو محاصر بضغوط حتى من داخل الحزب الجمهوري ومن داخل عائلته، لإقناعه بوقف مسار المواجهة القانونية التي لن تؤدي إلا الى إطالة المعاناة، وتلحق أضرارًا كبيرة على الولايات المتحدة في الداخل والخارج.
ورغم إخفاقه في كسب ولاية ثانية، لم يهزم ترامب في صناديق الاقتراع كما توقعت استطلاعات الرأي، رغم كل الحملات التي شنّت عليه والأخطاء التي وقع فيها والنكسات والفضائح. وفي انتخابات حطمت أرقاما قياسية في المشاركة، أضاف ترامب الى رصيده 3،7 مليون صوت مقارنة بالعام 2016. ومن الناحية النظرية لا شيء يمنعه من الترشح مرة ثانية بعد أربع سنوات، ومن الناحية العملية لديه قاعدة قوية للعب دور لم يسبق لأي من الرئيسين الآخرَين اللذين خسرا (كارتر وبوش) الاضطلاع به، ولأن يكون صاحب التأثير القوي وصانع الملوك بين الأسماء الجمهورية الصاعدة. ويمكن لترامب أن يطرح نفسه قائدًا فعليا للحزب، ولديه عدد هائل من الأنصار الذين سيبقى ترامب في نظرهم بطلًا.. إن نجاح بايدن جاء إلى حد ما بأصوات من يريدون إخراج ترامب من البيت الأبيض، أكثر من رغبتهم في رؤيته رئيسًا. الأكيد أن أميركا تغيرت خلال ولاية ترامب، ومن المرجح أن تستمر ظاهرة "الترامبية" حتى بعد خروجه من البيت الأبيض بما قد يهدد وحدة الحزب الجمهوري. وربما يتلاشى ترامب تدريجيا وينزوي في الظل السياسي كما حصل مع كل الرؤساء الأميركيين. ولكن حتى لو حصل ذلك، فإن آثار هذه الفترة المضطربة في التاريخ الأميركي لن تختفي أبدا.
أميركا مع ترامب تغيرت كثيرًا، وفي هذه الانتخابات كان التركيز ينصب على معرفة انعكاسات هذه المعركة السياسية على مستقبل الولايات المتحدة وعلى قضية الوحدة الوطنية التي هي في أضعف حالاتها اليوم. فالأميركيون منقسمون للغاية بين الريف والمدينة، والعرق واللون، والطبقة والإيمان والقيم. وخصوم وحلفاء الولايات المتحدة أدركوا أن الانتخابات ركزت كثيرًا على الداخل وعلى الانقسامات العميقة في المجتمع الأميركي، وأن النتائج ستكون لها عواقب على مكانة أميركا العالمية بعدما تعرضت "القيادة الأخلاقية الأميركية" لضربة قوية. والأوروبيون خصوصا ــ الذين يرون أن رئاسة ترامب لم تكن متوافقة مع ما يعرفونه ويعجبون به بشأن القيم الأميركية والنظام العالمي الليبرالي الذي أوجدته الولايات المتحدة ــ لن يتمكنوا من تفسير حقيقة أن ملايين الأميركيين صوتوا بالطريقة نفسها للمرة الثانية، وصُدموا بنتائج الانتخابات لأنهم لم يكونوا مستعدين لاحتمال ولاية ثانية لترامب كادت أن تتحقق.
أما الرئيس المنتخب جو بايدن، فإنه نجح في الفوز وكسب معركة صعبة، ولكن فوزه لم يكن باهرًا. النتائج جاءت متقاربة في الولايات المتأرجحة مع فوارق ضئيلة، والديمقراطيون أخفقوا في توقعاتهم وخططهم لجهة تحقيق موجة زرقاء أولًا، والسيطرة على مجلس الشيوخ ثانيا، وتعزيز وضعهم وأكثريتهم في مجلس النواب ثالثا. لذلك سيضطر بايدن الى التسوية والتفاوض. "جو النعسان" كما كان يصفه ترامب دائما، بدا بعد انتخابه يقظًا وحيويا. وأول ما فعله في الداخل هو تشكيل فريق عمل لإدارة أزمة كورونا. والى الخارج، أول رسالة أطلقها تتعلق بعودة الولايات المتحدة الى اتفاق باريس المناخي الذي انسحبت منه إدارة ترامب رسميا الأسبوع الماضي.
مع خسارة ترامب في الانتخابات، دخلت أميركا في مرحلة انتقالية تستمر رسميا حتى 20 كانون الثاني حين يتسلم الرئيس بايدن السلطة في احتفال قسم اليمين، وتستمر عمليا لستة أشهر الى حين ينتهي بايدن من اختيار فريقه وتركيز إدارته وبلورة سياساته وخياراته. بايدن خاض مبارزة طويلة وقاسية مع ترامب بأسلوبين ومشروعين وقاموسين مختلفين، بحيث بدا ترامب أشبه بعاصفة هبّت على أميركا من خارج المألوف، في حين بدا بايدن وريثًا للتقاليد وحريصًا على المؤسسات.. مرور ترامب في السياسة الأميركية والبيت الأبيض لم يكن عابرا، والأصوات التي حصدها في منافسة بايدن تشير إلى ذلك. ليست سهلة إزالة آثار "الترامبية" التي يتحدث عنها كثيرون، خصوصا أنها كشفت تمزقات عميقة في المجتمع الأميركي.
أميركا تغيرت والعالم تغير. وصول بايدن الى البيت الأبيض من شأنه أن يحدث عملية إعادة خلط للأوراق الخارجية: في أوروبا هناك تطلّع الى إعادة بناء العلاقات بين ضفتي الأطلسي وإصلاح ما أفسده ترامب. في إيران هناك ترقب لتصحيح أخطاء ترامب ورد الاعتبار للاتفاق النووي. في الخليج الفارسي شعور بالقلق لدى قادة الدول الذين ينظرون إلى ترامب على أنه عمل لحماية أهم مصالحهم الإقليمية من خلال فرض حملة ضغوط قصوى من العقوبات على إيران، والضغط لإتمام صفقات مبيعات الأسلحة إلى المملكة.
وإلى جانب إيران والعلاقة مع قادة دول المنطقة، سيتعين على بايدن التعامل مع سلسلة من القضايا المعقدة، من لعب دور حاسم في جهود إنهاء الحرب في ليبيا، إلى احتواء نفوذ تركيا المتصاعد ومواجهة "التهديدات" ضد قوات الاحتلال الأميركية في العراق. وإحدى الخطوات الأولى ستكون إعادة التواصل مع الجانب الفلسطيني الذي أغضبته خطوة نقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" إلى القدس.
لم يكن في عهد الرئيس دونالد ترامب وزن ودور لوزارة الخارجية التي انتقلت عمليا الى البيت الأبيض وتحت إدارة ترامب شخصيا وبمساعدة أحيانًا، من صهره جاريد كوشنير. كما هيمنت عليها دوائر وتقارير المخابرات المركزية، خصوصًا وأن وزير الخارجية مايك بومبيو جاء من عالم المخابرات وكان رئيسا لوكالة المخابرات.
سياسة ترامب اختصرت في عبارة "أميركا أولا" أي مصلحة الولايات المتحدة تأتي في المقام الأول والأخير، فلم يتردد في التخلي أو الانسحاب من الاتفاقيات الدولية التي يعتقد أنها لم تكن في مصلحة بلاده. وكانت مواقفه وسياساته تشبه الصفقات التجارية وأحادية ومعرقلة. وكانت مقارباته للعديد من الملفات والقضايا شخصية وغير منتظمة وتعتمد على مشاعره الغريزية وعلاقاته مع القادة الأجانب وما يعلنه من مواقف عبر "تويتر".
أما الرئيس الجديد جو بايدن الأقرب في مواصفاته الى رجل الدولة والمؤسسات، فستعود معه وزارة الخارجية الى دورها وألقها، وسيكون وزير الخارجية الجديد الأبرز في إدارة بايدن وإليه تتجه الأنظار. بايدن يرى أن العالم هو عبارة عن تحالف عالمي تقود فيه أميركا العالم الحر في مكافحة التهديدات العابرة للحدود. لكن هناك ملفات قد تحتل أولوية على أخرى، تقوم على تعزيز الانفتاح والتعاون مع الحلفاء لتكوين إجماع دولي في مواجهة الصين أو روسيا أو إيران.
باختصار دخلت الولايات المتحدة في حالة من الفوضى والانقسام الحاد في الداخل سوف تنعكس على الخيارات الخارجية لأن الانتخابات كشفت أن هناك دولة واحدة منقسمة بين أمتين، وسيكون عليهما التعايش معًا، أما إمكانية التعاون بينهما، فسوف نراها لاحقًا مع مفارقات خطيرة.. هل تتغير اميركا الى الأسوأ؟