التطبيع... الخطيئة في الموقف والخطأ في الحساب
معن بشور
مَن يواكب حركة الاحتجاجات الشعبية والسياسية في السودان ضد الاتفاق المعقود بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح برهان ورئيس الحكومة عبد الله حمدوك مع رئيس حكومة الكيان الغاصب بنيامين نتنياهو برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي لم يعُد يجد أوراقاً تدعمه في حملته الانتخابية إلا اتفاقات التطبيع بين تل أبيب وعواصم عربية لم تكن يوماً بعيدة عن التطبيع، يلاحظ من دون صعوبة أن ما أراده ترامب تطبيعاً بين السودان ومغتصبي القدس والأقصى سيكون إشارة انطلاق لحملة شعبية تجدد ارتباط هذا البلد الذي تعمّدت أراض فلسطينية بدماء 38 شهيداً سودانياً في معركة بيت دراس في فلسطين عام 1948، ثم تعمّدت دماء أبنائه الشهداء بالقصف الصهيوني الذي استهدف بور السودان وقوافل نقل السلاح بين عاصمة «اللاءات الثلاث» الى قطاع الصمود والمقاومة في غزة.
فالذين يعارضون التطبيع في السودان ليسوا فقط مقامات سودانية كـ الإمام السيد الصادق المهدي وكالوزير السابق غازي صلاح الدين، وكـ أركان المؤتمر الشعبي الذي أسسه الراحل الدكتور حسن الترابي، ولا كأحزاب صاعدة وواعدة، وعلماء دين يذكرون بموقف العلماء في لبنان في قيادة الاعتراض على اتفاق 17 أيار وفي مقدمتهم سماحة المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، وسماحة الإمام السيد محمد حسين فضل الله، بل هم أيضاً شباب كانوا مادة الحراك ضد النظام السابق، وبعضهم يعتبر ايقونة ذلك الحراك الذي انطلق في كانون الأول/ ديسمبر 2018 وابرزهم مؤسسو «الحملة الشعبية المناهضة للسودان» التي بدأت أول فعالياتها يوم الثلاثاء في 27 الحالي.
حتى بعض الأحزاب المنضوية في هياكل السلطة الجديدة، أعلنت مواقف رافضة للتطبيع، ومحتجة على انفراد «الرئيسين» بهذا الاتفاق المذل الذي أعلنه ترامب قبل أيام، لأن قواعد تلك الأحزاب ومناضليها لا يمكن لها ان توافق على اتفاق يلغي تراث السودان الوطني والعربي والإسلامي العريق، بل يناقض مبادئها ودعاويها ضد الصهيونية والاستعمار، ويفتح السودان وخيراته الوفيرة أمام شركات إسرائيلية وأميركية لتنهبها بعد منع السودان لعقود من استثمار هذه الموارد والخيرات...
ورغم أنني لست من «قارئي الفنجان» في السياسة وغيرها، لكنني أستطيع ان أقول إن مصير هذا الاتفاق لن يكون بأفضل من مصير اتفاق 17 أيار في لبنان، ومصير مكاتب الاتصال الإسرائيلية التي افتتحت في اكثر من عاصمة عربية في المغرب والمشرق والتي أغلقت إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وإبان الحروب العدوانية على قطاع غزة التي حركت جماهير موريتانيا العربية المسلمة لهدم السفارة الصهيونية في عاصمتهم (نواكشوط) وأجبرت الحكومة الموريتانية على قطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني وانتهاج سياسة وطنية توّجتها برفض إدراج بند تصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية في قمة نواكشوط العربية في صيف 2015 مستعينة بموقف القوى الشعبية العربية، قومية ويسارية وإسلامية، الرافض لهذا التصنيف عبر مؤتمر بيروت التاريخي في 15/7/2015 الذي دعا اليه المؤتمر القومي العربي والمؤتمرات الشقيقة.
إن توقعاتي هذه بالنسبة لمستقبل اتفاق التطبيع مع العدو لا يعتمد فقط على ثقتي بالشعب السودانيّ الذي حمل في يوم من شهر آب 1967 سيارة جمال عبد الناصر من مطار الخرطوم الى مكان انعقاد القمة العربية وحمل معه اللاءات الثلاث التي يعتزّ بها السودانيون على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية والعرقية، كما يعتز العرب والمسلمون بسودان «اللاءات الثلاث» على مدى 63 سنة، وهي اللاءات التي رأى نتنياهو في اتفاق التطبيع مع البرهان إسقاطاً لها، مما يشير الى ان الرؤية الصهيونية للتطبيع لا تنحصر بالحاضر والمستقبل فقط بل تريد الانتقام من الماضي القريب والبعيد أيضاً، بل إن هذه التوقعات تعتمد أيضاً على تقديري بأن هناك تحولاً متصاعداً في موازين المنطقة والعالم يسير باتجاه مصالح الشعوب بوجه المستعمرين والطغاة...
كما أن توقعي هذا يعتمد على ما نراه من معارضة شعبيّة متصاعدة لمسار التطبيع الذي غرقت فيه حكومات عربية، وتستعدّ حكومات أخرى للغرق فيه، فهذه المعارضة الشعبية الرائعة والمتصاعدة في البحرين لهذه الاتفاقات وللزيارات الإسرائيليّة المشبوهة المرافقة له، وهذه المواقف الجريئة من النخب الإماراتيّة التي أجبرت الحكومة على الطلب من مكاتب شركات التواصل (كـ تويتر وغوغل) أن تغلق حسابات بعضهم، ناهيك عن منع مناضلة وأديبة كبيرة كظبية خميس من السفر.
حتى في الأقطار التي لم يصل اليها بعد «فيروس» التطبيع، فقد انتشرت المراصد والجمعيات المناهضة للتطبيع سواء في دول المغرب العربي، أو مصر والأردن، وصولاً الى الدول الخليجيه التي اقام شبابها «ائتلافاً خليجياً لمناهضة التطبيع»، من دون أن ننسى الفعالية المتزايدة لحركة المقاطعة (B.D.S.) التي بدأت تتسبب بصدور تشريعات في بلدان الغرب تدين أعضاء هذه الحركة وتدعو الى ملاحقتهم.
وبهذا المعنى فقد نجحت واشنطن ومعها تل أبيب وبعض العواصم في المنطقة المهرولة نحو التطبيع، في تجديد التزام جماهير الأمة العربية والإسلامية بقضية فلسطين، كما نجحت في تحويل معارك الالتزام بهذه القضية الى شوارع العواصم والمدن والأرياف العربية بعد أن كان الالتزام بها لا يتعدى اصدار بيانات موسمية او في أحسن الأحوال تطوّع بعض أبناء هذه الأقطار في صفوف المقاومة الفلسطينية، وما الإعلان عن استطلاعات الرأي تقوم بها مراكز أبحاث أميركية وإسرائيلية كاشفة ان الغالبية الساحقة من أبناء الأمة، بما فيها أبناء الخليج الفارسي والجزيرة العربية إلا الدليل الساطع لهذا المزاج الشعبي العربي.
وسيكتشف أهل التطبيع في داخل الوطن العربي وخارجه، ان الإصرار على إجبار حكومات ضعيفة وذليلة على القبول باتفاقات سلام وهي لم تخض حرباً بالأساس، واتفاقات تطبيع كانت جزءاً من سياساتها غير المعلنة، لن يؤدي إلا إلى تعميق الشرخ الداخلي فيها وكشف طبيعة أنظمة نجحت في إخفاء حقيقة علاقتها بالمشروع الصهيوني عقوداً طويلة...
بل إن اتفاقات السلام والتطبيع الجديدة، في ظروف فشل كل اتفاقات السلام والتطبيع السابقة من «كمب ديفيد» الى «أوسلو» الى «وادي عربه» سيؤكد سلامة منطق معارضي التطبيع ويكشف أن رفض التطبيع ليس موقفاً مبدئياً او عقائدياً فقط بل هو موقف واقعي جداً، حيث حقق التطبيع للعدو معظم أغراضه، ولم يحقق لموقعيه من الحكومات العربية غير المزيد من الازمات الاقتصادية والاجتماعية والفتن والحروب الأهلية، بل إن الدماء التي سالت في الأرض العربية خلال السنوات الأربعين الماضية، وتحديداً بعد كمب ديفيد، والحروب التي شنها العدو الصهيوني، هي أضعاف الدماء التي سالت، والحروب التي وقعت، قبل هذه الاتفاقات.