من النيلين إلى الخليج الفارسي: لا تستخفوا بتفكيك «إسرائيل» للأمن القومي العربي!
د. عدنان منصور
مما لا شك فيه، أنّ اعتراف دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، بـ «إسرائيل» وإقامة علاقات دبلوماسية معها، شكل فاتحة الاعتراف الرسمي الخليجي، أمام دول خليجية أخرى، وغير خليجية تنتظر دورها، متيحة الفرصة المناسبة لها، كي تخطو خطوة أبو ظبي والمنامة في هذا الشأن.
ها هو السودان يلحق بركب الاعتراف ولا أقول بركب التطبيع، لأنّ التطبيع يعني العودة إلى علاقات سابقة سليمة كانت موجودة أصلا بين دولتين أو أكثر، قرّرا طيّ الخلافات بينهما، بعد قطيعة لسبب ما، أدّى إلى قطع العلاقات. لكن ما يجري اليوم فعلاً هو اعتراف رسمي عربي بكيان العدو.
هناك من رأى في الاعتراف بدولة الاحتلال (التطبيع بمفهومه) قفزة كبيرة الى الأمام، سيوفر في المستقبل السلام والاستقرار للمنطقة ودولها وشعوبها، وهو بالتالي يجد نفسه حريصاً للدفاع عنه، مبرّراً ومعدّداً مزايا الاعتراف وإيجابياته، وذلك من منظور شخصي ومفهوم خاص، يستند الى خلفيات سياسية ومواقف ومصالح خاصة، تطرح علامات استفهام عديدة حول دوافعها وغاياتها وأهدافها المشبوهة، التي تتعارض كلياً مع صالح الأمة وسيادتها، ومستقبل أمنها القومي الاستراتيجي،
من جانب آخر هناك أيضاً، من يستخفّ بهذا الاعتراف (التطبيع) ولا يعطيه الأهمية الكافية لتأثيراته السلبية، وتداعياته، ونتائجه العميقة على منطقة الشرق الأوسط كلها، وعلى موازين القوى السياسية، والاقتصادية، والمالية، والعسكرية، والاستراتيجية فيها. بحيث أنّ تفاؤله المفرط، وحماسه الساذج العفوي، يدفعه إلى تقييم هذا الاعتراف (التطبيع) تقييماً سطحياً، على اعتبار أنه سيفشل ولن يحقق أهدافه، في الوصول الى مآربه.
هذا النوع من التقييم ليس في مكانه، وهو يعبّر عن رؤية آنية سطحية، وإفراط في التفاؤل البعيد عن الواقع والمنطق، لمجريات وتطوّرات الأحداث والأوضاع.
انّ اعتراف دول عربية خليجية وغير خليجية، سينقل العدو من الدفاع عن أرض يحتلها، إلى الاندفاع باتجاه منطقة تشكل له بعداً وأهمية استراتيجية، واقتصادية، ومالية، واستثمارية كبيرة، ورقعة جغرافية واسعة، تفسح له مجالاً رحباً لإعادة رسم خارطة سياسية وأمنية وعسكرية وتجارية جديدة، تصبّ في خدمة مصالحه، ومشروعه الصهيوني الذي يتجاوز فلسطين، ورحاب الأقصى، والحرمين، لتسقط أمامه بعد ذلك، كلّ المحرمات، والقطيعة وقرارات مقاطعة الدول العربية له. بحيث انّ الاعتراف الإسرائيلي الخليجي ـ العربي، سيؤثر مستقبلاً على أوضاع المنطقة وموازينها وتطوّراتها من نواح عديدة أبرزها:
1 ـ انّ الاعتراف سيتيح لـ «إسرائيل» ان تتجه شرقاً عبر الأردن مروراً بالأراضي السعودية، وصولاً الى الإمارات، ومن ثم الى طول الشاطئ الغربي للخليج الفارسي. فبعد سماح السعودية لـ «إسرائيل»، بعبور طائراتها أجواء المملكة، وهذا ما يشكل «اعترافاً جوياً»، فإنه من البديهي، ان تسمح بعد ذلك للشاحنات والبضائع «الإسرائيلية» والمسافرين الصهاينة بكلّ فئاتهم أن يعبروا أراضي المملكة، باتجاه الدول الخليجية، وهو «اعتراف بري» سيعزز من الحضور التجاري والمالي، لمئات الشركات «الإسرائيلية» المتواجدة اليوم في الإمارات، والتي تعمل في مختلف المجالات والصعد.
2 ـ انّ حرية المرور البري والجوي، التي ستمنح وتعطى في ما بعد لـ «الإسرائيليين»، ستوصلهم الى الدول الخليجية كافة، وستجعل من موانئ «إسرائيل»، لا سيما ميناء حيفا، شريان الصادرات «الإسرائيلية» إليها، ومنها الى دول آسيا، مما سيحقق في المستقبل، نمواً سريعاً لصادرات سلع العدو الى هذه الدول، وسيؤسّس بالتالي، منافسة شديدة مع ميناء بيروت، تكون فيه «إسرائيل» في طليعة المصدّرين الى الدول الخليجية. خاصة بعد ان تقوم الصين بتنفيذ مشاريع ضخمة لتوسعة ميناء حيفا، الذي سيبدأ العمل بها اعتباراً من العام المقبل.
3 ـ انّ الاعتراف (التطبيع) بـ «إسرائيل» سيشرّع أبواب السياحة «الإسرائيلية» على مصراعيها امام عرب الدول الخليجية، لتأتي على حساب السياحة في دول عربية عديدة، كلبنان وسورية ومصر والأردن وغيرها، حيث فرص السياحة وإمكاناتها، وتشعّباتها، وخدماتها، ومغرياتها متوفرة، ومتاحة للسائح، وتلبّي متطلباته ورغباته دون قيود. بالإضافة الى ذلك قرب المسافة الجغرافية بين فلسطين وبلدان الخليج الفارسي، التي تشكل حافزاً مشجعاً للسياح القادمين من وإلى الخليج الفارسي.
4 ـ انّ الاعتراف بـ «إسرائيل» وتعزيز العلاقات معها، سيوسع من دائرة التهديد والخطر «الإسرائيلي» على الأمن القومي العربي، وعلى الأمن القومي الإيراني، نظراً للعلاقات المتنامية بين «إسرائيل» والدول الخليجية في المجال العسكري والاستخباري، والتدريبات المشتركة وتبادل المعلومات، ما سيعزّز من الحضور العسكري لـ «إسرائيل» على الشاطئ الغربي للخليج الفارسي. حضور سيمهّد مستقبلاً لإقامة قواعد عسكرية في أكثر من دولة، بدافع مواجهة التهديد والخطر الإيراني وحلفائه ـ وهذا أمر ليس مستبعداً ـ إذ انّ النفوذ العسكري الإسرائيلي الذي يتواجد اليوم في القرن الأفريقي، من خلال قاعدة عسكرية بحرية في اريتريا، وقواعد جوية في إثيوبيا وكينيا وتشاد، ويستعدّ أيضاً لإيجاد موقع قدم عسكري في جزيرة سوقطرا اليمنية،
يريد ان ينشر مروحة نفوذ عسكري واسع النطاق، يمتدّ من القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وصولاً الى الخليج الفارسي.
5 ـ انّ الاعتراف بـ «إسرائيل» بموجب مفهوم «التطبيع» الإسرائيلي ـ الخليجي ـ العربي، سيسقط نهائياً القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني، من قاموس الدول المعترفة بالكيان «الإسرائيلي». وهذا أمر طبيعي. كما سيبطل الدور السياسي للدول العربية المعترفة به، حيال القضية الفلسطينية، ويقلّص الى حدّ بعيد، من التزاماتها لجهة القرارات الدولية، والعربية وحقوق الشعب الفلسطيني ذات الصلة، التي تضمن وتؤكد على حقوقه الوطنية المشروعة. كما انّ التقارب والتحالف الخليجي ـ الإسرائيلي ـ العربي مستقبلاً، سيجعل «إسرائيل» تندفع بكلّ قواها، وتعجّل أكثر في مصادرتها لما تبقى من الأراضي الفلسطينية، من خلال سياسة القضم والضمّ، والعمل المكثف على تهويد فلسطين دون أيّ حذر أو رادع. كون العدو يعرف مسبقاً أنّ الموقف العربي تلاشى وتصدّع، وأنّ عدوّ الأمس أصبح حليف اليوم. وهذا الحليف «العربي» الجديد، لن يقف في وجهها، وسيغضّ الطرف عن أفعالها وممارساتها التوسعية العدوانية. وفي أقصى الحالات لن يتجاوز اعتراض الحليف باب العتب، أو الإعراب عن «قلقه» الذي لا يقدّم ولا يؤخر في حقيقة وجوهر الأمور.
6 ـ انّ اعتراف الدول الخليجية والسودان معها بـ «إسرائيل»، سيرسم مستقبلاً خارطة جديدة محفوفة بالمخاطر والمواجهات، لتفسح المجال أمام سباق تسلح مخيف يستنزف مئات المليارات من الخزائن العربية، ويتيح الفرصة أكثر فأكثر أمام أجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» والغربية في المنطقة، أن تفعل فعلها، وتعزز حضورها وتوسع شبكة تحركاتها وخططها ونفوذها، لا سيما أنه في الدول الخليجية، يتواجد أكثر من عشرين مليون أجنبي يقيمون على أرضها. بالإضافة إلى وجود أكثر من نصف مليون إيراني في الإمارات بين من هو من أصل إيراني أو مقيم. وهذا ما يشكل في ما بعد قلقاً كبيراً لطهران، حيث «إسرائيل» ستنتهزّ أيّ فرصة للتجسّس على إيران والعمل بكلّ قوة على زعزعة الأوضاع الأمنية فيها، من خلال خلايا داخلية وخارجية ناشطة وجاهزة كي تعمل لصالحها، وتكون على مقربة من الشاطئ الشرقي للخليج الفارسي، حيث توجد منشآت النفط والغاز، والقواعد العسكرية البحرية الإيرانية، مما يسهّل عمليات التجسّس لأجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» وانتشارها، وعبورها إلى الداخل الإيراني، بغية زعزعة الاستقرار، وتقويض الأمن القومي الإيراني.
7 ـ انّ تمدّد «إسرائيل»، ووصولها الى شواطئ الخليج الفارسي، سيشجعها مستقبلاً على إنشاء قاعدة عسكرية دائمة لها، وهذا أمر ليس مستبعداً، أسوة بالقواعد العسكرية، الحربية المتواجدة على طول اليابسة لغربي الخليج الفارسي، والقطع البحرية التي تجوب مياهه، من أميركية وبريطانية وفرنسية وتركية وغيرها. بذلك تصبح «إسرائيل» جزءاً لا يتجزأ من منظومة أمنية عسكرية، او حلف معلن أو غير معلن، تكون فيه رأس الحربة الذي يجمع الأطراف المختلفة على هدف واحد، وتحت ذريعة واهية، ترمي الى مواجهة «الخطر الإيراني» وحلفائه بكلّ الوسائل، الذي يمتدّ على طول المنطقة المشرقية الشمالية من طهران، مروراً ببغداد ودمشق وصولاً الى بيروت وغزة. وهذا ما سيشرع أبواب المنطقة على رياح ساخنة، وصراعات حادة، وعداوات مصطنعة، وكراهية بين شعوبها، ترمي من خلالها «إسرائيل» وحلفاؤها في الغرب الى تمزيق المنطقة، وتأجيج الخلافات والصراعات الطائفية والمذهبية، وتفتيت مجتمعاتها من الداخل، بغية الإمساك بها، والتحكم بمصيرها ومستقبلها، والهيمنة عليها سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً، وأمنياً.
صراع سيستمرّ بين جبهتين متناقضتين بالكامل في الرؤى والأهداف، بين أصحاب القضية والحقوق من جهة، وقوى الاحتلال والسيطرة وحلفائها من جهة أخرى.
8 ـ انّ أخطر ما في التطبيع، سريان وباء فكري جديد مدمّر للفكر العربي، بحيث أنّ جيلاً يُراد منه أن يضيع بوصلته الوطنية والقومية، ليعيش على وهم السلام ومنافعه، ومكاسبه، ويتأقلم مع عدو قاتل، غاصب للأرض، يريد أن ينتزع منه الأمن، والاستسلام، وسلام الأمر الواقع، والرضوخ لإرادته، وأن يصادر فكره وقراره الرافض للكيان المحتلّ.
ليت الجيل الحالي يتعلّم من دروس أوسلو وغباء المغفلين الذين هرولوا وراءه، حيث أعطى الفلسطينيون العدو الصهيوني كلّ شيء، ولم يعطهم شيئاً. بل خذل أوسلو واللاهثين وراءه، وأخذ منهم المزيد المزيد، وما زال مستمراً في نهجه وفي سياسة القضم والضمّ منذ عام 1967 وحتى اليوم.
انّ الاعتراف بهذا الكيان ونسج علاقات واسعة معه، والترويج الإعلامي العربي الهائل له، سيكون بمثابة السوس الذي ينخر وجدان وعقيدة وثقافة وفكر المواطن العربي ووجوده. والأخطر من ذلك سيحدث انشقاقاً كارثياً داخل نسيج الشعوب العربية، بين من هو ثابت على مبادئه القومية، وملتزم بقضايا أمته، وبين متسرّع، مروّج للاعتراف بعدو الأمة، يدافع عنه وعن كيانه المحتلّ، رغم كلّ ما يحمله هذا الكيان من سياسات ترمي الى الهيمنة والإمساك بمفاصل المنطقة، ومصادرة قرارها وإرادتها، وتشويه هويتها، وعروبتها، وقوميتها، وتاريخها.
9 ـ انّ الاعتراف العربي بـ «إسرائيل»، سيصبّ في صالحها أولاً وأخيراً، وسيكون على حساب الدول العربية المعترفة بها. إذ أنّ الإمكانات المتوفرة للعدو، وشبكة العلاقات الدولية الفاعلة والمؤثرة التي يرتبط بها، وتغلغل نفوذه الواسع داخل المؤسسات السياسية، والإعلامية، والعسكرية والمصرفية والمالية الدولية، ستجعله يتوغّل داخل القرار العربي، ويطوعه لصالحه في كلّ صغيرة وكبيرة، إما بالترهيب أو التهويل أو الترغيب أو الضغط أو بالابتزاز الناعم
فحتى لا يأتي يوم تصبح فيه المنطقة الممتدة من النيلين (مصر والسودان)، إلى الشاطئ الشرقي للخليج الفارسي، الحديقة الخلفية لـ «إسرائيل»، تسرح وتمرح فيها دون حدود، او رادع أو حسيب. لذلك لا بدّ من الحريصين على مستقبل المنطقة، وأمنها القومي، وهويتها، ودورها، ونضالها، مواجهة التمدّد الصهيوني وزحفه على دولنا بكلّ قوّة، والذي يقلب التوازنات الاستراتيجية في منطقة غربي آسيا، حيث سيدفع بدولها لإعادة تموضعها، وحساباتها، وسياساتها على الأرض. فالاعتراف بـ «إسرائيل» (التطبيع) سيفسح المجال لها لتهدّد مباشرة الأمن القومي المنطقة كلها بما فيه الأمن القومي الإيراني، ما يجعل الدول الرافضة للاعتراف بكيان العدو، في مواجهة مباشرة معه ومع حلفائه. إذ أنّ تمدّد العدو في المنطقة، سيضعها مستقبلاً على صفيح ساخن، تكون حبلى بالمفاجآت وتطورات الأحداث فيها.
10 ـ انّ توغل «إسرائيل «وتمدّدها داخل الأنظمة العربية، يشكل ضربة قاصمة لقضية الشعب الفلسطيني والأمة كلها، حيث يتحمّل الزعماء العرب مسؤوليتهم الدينية، والأخلاقية، والإنسانية والقومية، حيال شعوب عربية شقيقة، ـ لا سيما الشعب الفلسطيني ـ الذي يعاني حتى اللحظة، من جرائم الاحتلال «الإسرائيلي» وسياسات القهر والتمييز العنصري، والاستبداد والإذلال الذي يمارسه بحقه، أمام مرأى العالم كله.
انّ اعتراف بعض زعماء العرب بـ «إسرائيل» سيدفع بالعدو، الى زعزعة الاستقرار لدول المنطقة، ويشجعه على العمل بكلّ قوة للإطاحة بأنظمتها الوطنية، وتقويض سيادتها ووحدة أرضها.
انّ تصحيح المسار يستدعي صحوة قومية جامعة على مختلف المستويات، وتحركاً مضاداً بكلّ الاتجاهات على مساحة العالم العربي، من قبل مجموعات الضغط الشعبية والرسمية، وقبل فوات الأوان، من أجل لجم هذا الزحف «الإسرائيلي» وإجهاضه، الذي يشكل باستمرار، خطراً وجودياً وأمنياً على شعوب الأمة كلها!
لذلك، لا تستخفوا بمفاعيل الاعتراف «العربي» بكيان العدو!
د. عدنان منصور
مما لا شك فيه، أنّ اعتراف دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، بـ «إسرائيل» وإقامة علاقات دبلوماسية معها، شكل فاتحة الاعتراف الرسمي الخليجي، أمام دول خليجية أخرى، وغير خليجية تنتظر دورها، متيحة الفرصة المناسبة لها، كي تخطو خطوة أبو ظبي والمنامة في هذا الشأن.
ها هو السودان يلحق بركب الاعتراف ولا أقول بركب التطبيع، لأنّ التطبيع يعني العودة إلى علاقات سابقة سليمة كانت موجودة أصلا بين دولتين أو أكثر، قرّرا طيّ الخلافات بينهما، بعد قطيعة لسبب ما، أدّى إلى قطع العلاقات. لكن ما يجري اليوم فعلاً هو اعتراف رسمي عربي بكيان العدو.
هناك من رأى في الاعتراف بدولة الاحتلال (التطبيع بمفهومه) قفزة كبيرة الى الأمام، سيوفر في المستقبل السلام والاستقرار للمنطقة ودولها وشعوبها، وهو بالتالي يجد نفسه حريصاً للدفاع عنه، مبرّراً ومعدّداً مزايا الاعتراف وإيجابياته، وذلك من منظور شخصي ومفهوم خاص، يستند الى خلفيات سياسية ومواقف ومصالح خاصة، تطرح علامات استفهام عديدة حول دوافعها وغاياتها وأهدافها المشبوهة، التي تتعارض كلياً مع صالح الأمة وسيادتها، ومستقبل أمنها القومي الاستراتيجي،
من جانب آخر هناك أيضاً، من يستخفّ بهذا الاعتراف (التطبيع) ولا يعطيه الأهمية الكافية لتأثيراته السلبية، وتداعياته، ونتائجه العميقة على منطقة الشرق الأوسط كلها، وعلى موازين القوى السياسية، والاقتصادية، والمالية، والعسكرية، والاستراتيجية فيها. بحيث أنّ تفاؤله المفرط، وحماسه الساذج العفوي، يدفعه إلى تقييم هذا الاعتراف (التطبيع) تقييماً سطحياً، على اعتبار أنه سيفشل ولن يحقق أهدافه، في الوصول الى مآربه.
هذا النوع من التقييم ليس في مكانه، وهو يعبّر عن رؤية آنية سطحية، وإفراط في التفاؤل البعيد عن الواقع والمنطق، لمجريات وتطوّرات الأحداث والأوضاع.
انّ اعتراف دول عربية خليجية وغير خليجية، سينقل العدو من الدفاع عن أرض يحتلها، إلى الاندفاع باتجاه منطقة تشكل له بعداً وأهمية استراتيجية، واقتصادية، ومالية، واستثمارية كبيرة، ورقعة جغرافية واسعة، تفسح له مجالاً رحباً لإعادة رسم خارطة سياسية وأمنية وعسكرية وتجارية جديدة، تصبّ في خدمة مصالحه، ومشروعه الصهيوني الذي يتجاوز فلسطين، ورحاب الأقصى، والحرمين، لتسقط أمامه بعد ذلك، كلّ المحرمات، والقطيعة وقرارات مقاطعة الدول العربية له. بحيث انّ الاعتراف الإسرائيلي الخليجي ـ العربي، سيؤثر مستقبلاً على أوضاع المنطقة وموازينها وتطوّراتها من نواح عديدة أبرزها:
1 ـ انّ الاعتراف سيتيح لـ «إسرائيل» ان تتجه شرقاً عبر الأردن مروراً بالأراضي السعودية، وصولاً الى الإمارات، ومن ثم الى طول الشاطئ الغربي للخليج الفارسي. فبعد سماح السعودية لـ «إسرائيل»، بعبور طائراتها أجواء المملكة، وهذا ما يشكل «اعترافاً جوياً»، فإنه من البديهي، ان تسمح بعد ذلك للشاحنات والبضائع «الإسرائيلية» والمسافرين الصهاينة بكلّ فئاتهم أن يعبروا أراضي المملكة، باتجاه الدول الخليجية، وهو «اعتراف بري» سيعزز من الحضور التجاري والمالي، لمئات الشركات «الإسرائيلية» المتواجدة اليوم في الإمارات، والتي تعمل في مختلف المجالات والصعد.
2 ـ انّ حرية المرور البري والجوي، التي ستمنح وتعطى في ما بعد لـ «الإسرائيليين»، ستوصلهم الى الدول الخليجية كافة، وستجعل من موانئ «إسرائيل»، لا سيما ميناء حيفا، شريان الصادرات «الإسرائيلية» إليها، ومنها الى دول آسيا، مما سيحقق في المستقبل، نمواً سريعاً لصادرات سلع العدو الى هذه الدول، وسيؤسّس بالتالي، منافسة شديدة مع ميناء بيروت، تكون فيه «إسرائيل» في طليعة المصدّرين الى الدول الخليجية. خاصة بعد ان تقوم الصين بتنفيذ مشاريع ضخمة لتوسعة ميناء حيفا، الذي سيبدأ العمل بها اعتباراً من العام المقبل.
3 ـ انّ الاعتراف (التطبيع) بـ «إسرائيل» سيشرّع أبواب السياحة «الإسرائيلية» على مصراعيها امام عرب الدول الخليجية، لتأتي على حساب السياحة في دول عربية عديدة، كلبنان وسورية ومصر والأردن وغيرها، حيث فرص السياحة وإمكاناتها، وتشعّباتها، وخدماتها، ومغرياتها متوفرة، ومتاحة للسائح، وتلبّي متطلباته ورغباته دون قيود. بالإضافة الى ذلك قرب المسافة الجغرافية بين فلسطين وبلدان الخليج الفارسي، التي تشكل حافزاً مشجعاً للسياح القادمين من وإلى الخليج الفارسي.
4 ـ انّ الاعتراف بـ «إسرائيل» وتعزيز العلاقات معها، سيوسع من دائرة التهديد والخطر «الإسرائيلي» على الأمن القومي العربي، وعلى الأمن القومي الإيراني، نظراً للعلاقات المتنامية بين «إسرائيل» والدول الخليجية في المجال العسكري والاستخباري، والتدريبات المشتركة وتبادل المعلومات، ما سيعزّز من الحضور العسكري لـ «إسرائيل» على الشاطئ الغربي للخليج الفارسي. حضور سيمهّد مستقبلاً لإقامة قواعد عسكرية في أكثر من دولة، بدافع مواجهة التهديد والخطر الإيراني وحلفائه ـ وهذا أمر ليس مستبعداً ـ إذ انّ النفوذ العسكري الإسرائيلي الذي يتواجد اليوم في القرن الأفريقي، من خلال قاعدة عسكرية بحرية في اريتريا، وقواعد جوية في إثيوبيا وكينيا وتشاد، ويستعدّ أيضاً لإيجاد موقع قدم عسكري في جزيرة سوقطرا اليمنية،
يريد ان ينشر مروحة نفوذ عسكري واسع النطاق، يمتدّ من القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وصولاً الى الخليج الفارسي.
5 ـ انّ الاعتراف بـ «إسرائيل» بموجب مفهوم «التطبيع» الإسرائيلي ـ الخليجي ـ العربي، سيسقط نهائياً القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني، من قاموس الدول المعترفة بالكيان «الإسرائيلي». وهذا أمر طبيعي. كما سيبطل الدور السياسي للدول العربية المعترفة به، حيال القضية الفلسطينية، ويقلّص الى حدّ بعيد، من التزاماتها لجهة القرارات الدولية، والعربية وحقوق الشعب الفلسطيني ذات الصلة، التي تضمن وتؤكد على حقوقه الوطنية المشروعة. كما انّ التقارب والتحالف الخليجي ـ الإسرائيلي ـ العربي مستقبلاً، سيجعل «إسرائيل» تندفع بكلّ قواها، وتعجّل أكثر في مصادرتها لما تبقى من الأراضي الفلسطينية، من خلال سياسة القضم والضمّ، والعمل المكثف على تهويد فلسطين دون أيّ حذر أو رادع. كون العدو يعرف مسبقاً أنّ الموقف العربي تلاشى وتصدّع، وأنّ عدوّ الأمس أصبح حليف اليوم. وهذا الحليف «العربي» الجديد، لن يقف في وجهها، وسيغضّ الطرف عن أفعالها وممارساتها التوسعية العدوانية. وفي أقصى الحالات لن يتجاوز اعتراض الحليف باب العتب، أو الإعراب عن «قلقه» الذي لا يقدّم ولا يؤخر في حقيقة وجوهر الأمور.
6 ـ انّ اعتراف الدول الخليجية والسودان معها بـ «إسرائيل»، سيرسم مستقبلاً خارطة جديدة محفوفة بالمخاطر والمواجهات، لتفسح المجال أمام سباق تسلح مخيف يستنزف مئات المليارات من الخزائن العربية، ويتيح الفرصة أكثر فأكثر أمام أجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» والغربية في المنطقة، أن تفعل فعلها، وتعزز حضورها وتوسع شبكة تحركاتها وخططها ونفوذها، لا سيما أنه في الدول الخليجية، يتواجد أكثر من عشرين مليون أجنبي يقيمون على أرضها. بالإضافة إلى وجود أكثر من نصف مليون إيراني في الإمارات بين من هو من أصل إيراني أو مقيم. وهذا ما يشكل في ما بعد قلقاً كبيراً لطهران، حيث «إسرائيل» ستنتهزّ أيّ فرصة للتجسّس على إيران والعمل بكلّ قوة على زعزعة الأوضاع الأمنية فيها، من خلال خلايا داخلية وخارجية ناشطة وجاهزة كي تعمل لصالحها، وتكون على مقربة من الشاطئ الشرقي للخليج الفارسي، حيث توجد منشآت النفط والغاز، والقواعد العسكرية البحرية الإيرانية، مما يسهّل عمليات التجسّس لأجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» وانتشارها، وعبورها إلى الداخل الإيراني، بغية زعزعة الاستقرار، وتقويض الأمن القومي الإيراني.
7 ـ انّ تمدّد «إسرائيل»، ووصولها الى شواطئ الخليج الفارسي، سيشجعها مستقبلاً على إنشاء قاعدة عسكرية دائمة لها، وهذا أمر ليس مستبعداً، أسوة بالقواعد العسكرية، الحربية المتواجدة على طول اليابسة لغربي الخليج الفارسي، والقطع البحرية التي تجوب مياهه، من أميركية وبريطانية وفرنسية وتركية وغيرها. بذلك تصبح «إسرائيل» جزءاً لا يتجزأ من منظومة أمنية عسكرية، او حلف معلن أو غير معلن، تكون فيه رأس الحربة الذي يجمع الأطراف المختلفة على هدف واحد، وتحت ذريعة واهية، ترمي الى مواجهة «الخطر الإيراني» وحلفائه بكلّ الوسائل، الذي يمتدّ على طول المنطقة المشرقية الشمالية من طهران، مروراً ببغداد ودمشق وصولاً الى بيروت وغزة. وهذا ما سيشرع أبواب المنطقة على رياح ساخنة، وصراعات حادة، وعداوات مصطنعة، وكراهية بين شعوبها، ترمي من خلالها «إسرائيل» وحلفاؤها في الغرب الى تمزيق المنطقة، وتأجيج الخلافات والصراعات الطائفية والمذهبية، وتفتيت مجتمعاتها من الداخل، بغية الإمساك بها، والتحكم بمصيرها ومستقبلها، والهيمنة عليها سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً، وأمنياً.
صراع سيستمرّ بين جبهتين متناقضتين بالكامل في الرؤى والأهداف، بين أصحاب القضية والحقوق من جهة، وقوى الاحتلال والسيطرة وحلفائها من جهة أخرى.
8 ـ انّ أخطر ما في التطبيع، سريان وباء فكري جديد مدمّر للفكر العربي، بحيث أنّ جيلاً يُراد منه أن يضيع بوصلته الوطنية والقومية، ليعيش على وهم السلام ومنافعه، ومكاسبه، ويتأقلم مع عدو قاتل، غاصب للأرض، يريد أن ينتزع منه الأمن، والاستسلام، وسلام الأمر الواقع، والرضوخ لإرادته، وأن يصادر فكره وقراره الرافض للكيان المحتلّ.
ليت الجيل الحالي يتعلّم من دروس أوسلو وغباء المغفلين الذين هرولوا وراءه، حيث أعطى الفلسطينيون العدو الصهيوني كلّ شيء، ولم يعطهم شيئاً. بل خذل أوسلو واللاهثين وراءه، وأخذ منهم المزيد المزيد، وما زال مستمراً في نهجه وفي سياسة القضم والضمّ منذ عام 1967 وحتى اليوم.
انّ الاعتراف بهذا الكيان ونسج علاقات واسعة معه، والترويج الإعلامي العربي الهائل له، سيكون بمثابة السوس الذي ينخر وجدان وعقيدة وثقافة وفكر المواطن العربي ووجوده. والأخطر من ذلك سيحدث انشقاقاً كارثياً داخل نسيج الشعوب العربية، بين من هو ثابت على مبادئه القومية، وملتزم بقضايا أمته، وبين متسرّع، مروّج للاعتراف بعدو الأمة، يدافع عنه وعن كيانه المحتلّ، رغم كلّ ما يحمله هذا الكيان من سياسات ترمي الى الهيمنة والإمساك بمفاصل المنطقة، ومصادرة قرارها وإرادتها، وتشويه هويتها، وعروبتها، وقوميتها، وتاريخها.
9 ـ انّ الاعتراف العربي بـ «إسرائيل»، سيصبّ في صالحها أولاً وأخيراً، وسيكون على حساب الدول العربية المعترفة بها. إذ أنّ الإمكانات المتوفرة للعدو، وشبكة العلاقات الدولية الفاعلة والمؤثرة التي يرتبط بها، وتغلغل نفوذه الواسع داخل المؤسسات السياسية، والإعلامية، والعسكرية والمصرفية والمالية الدولية، ستجعله يتوغّل داخل القرار العربي، ويطوعه لصالحه في كلّ صغيرة وكبيرة، إما بالترهيب أو التهويل أو الترغيب أو الضغط أو بالابتزاز الناعم
فحتى لا يأتي يوم تصبح فيه المنطقة الممتدة من النيلين (مصر والسودان)، إلى الشاطئ الشرقي للخليج الفارسي، الحديقة الخلفية لـ «إسرائيل»، تسرح وتمرح فيها دون حدود، او رادع أو حسيب. لذلك لا بدّ من الحريصين على مستقبل المنطقة، وأمنها القومي، وهويتها، ودورها، ونضالها، مواجهة التمدّد الصهيوني وزحفه على دولنا بكلّ قوّة، والذي يقلب التوازنات الاستراتيجية في منطقة غربي آسيا، حيث سيدفع بدولها لإعادة تموضعها، وحساباتها، وسياساتها على الأرض. فالاعتراف بـ «إسرائيل» (التطبيع) سيفسح المجال لها لتهدّد مباشرة الأمن القومي المنطقة كلها بما فيه الأمن القومي الإيراني، ما يجعل الدول الرافضة للاعتراف بكيان العدو، في مواجهة مباشرة معه ومع حلفائه. إذ أنّ تمدّد العدو في المنطقة، سيضعها مستقبلاً على صفيح ساخن، تكون حبلى بالمفاجآت وتطورات الأحداث فيها.
10 ـ انّ توغل «إسرائيل «وتمدّدها داخل الأنظمة العربية، يشكل ضربة قاصمة لقضية الشعب الفلسطيني والأمة كلها، حيث يتحمّل الزعماء العرب مسؤوليتهم الدينية، والأخلاقية، والإنسانية والقومية، حيال شعوب عربية شقيقة، ـ لا سيما الشعب الفلسطيني ـ الذي يعاني حتى اللحظة، من جرائم الاحتلال «الإسرائيلي» وسياسات القهر والتمييز العنصري، والاستبداد والإذلال الذي يمارسه بحقه، أمام مرأى العالم كله.
انّ اعتراف بعض زعماء العرب بـ «إسرائيل» سيدفع بالعدو، الى زعزعة الاستقرار لدول المنطقة، ويشجعه على العمل بكلّ قوة للإطاحة بأنظمتها الوطنية، وتقويض سيادتها ووحدة أرضها.
انّ تصحيح المسار يستدعي صحوة قومية جامعة على مختلف المستويات، وتحركاً مضاداً بكلّ الاتجاهات على مساحة العالم العربي، من قبل مجموعات الضغط الشعبية والرسمية، وقبل فوات الأوان، من أجل لجم هذا الزحف «الإسرائيلي» وإجهاضه، الذي يشكل باستمرار، خطراً وجودياً وأمنياً على شعوب الأمة كلها!
لذلك، لا تستخفوا بمفاعيل الاعتراف «العربي» بكيان العدو!