الادارة الأميركية لأزمة "كورونا".. نموذج مصغر لادارة سياساتها الدولية
شارل ابي نادر
تفاجأ العالم بطريقة مواجهة الادارة الاميركية لأزمة تفشي الكورونا، حيث تتصدر الدولة العظمى اليوم عدد المصابين وحالات الوفاة مقارنة مع أغلب الدول التي أصيبت باكرًا بالوباء، كالصين وايطاليا وايران، وهي كما يبدو، ومع الأسف لما يصيب الشعب الاميركي، على الطريق لتتفوق في تلك الارقام المحزنة على أغلب الدول مجتمعة. الكثير من الدول المتطورة أيضا لم يكن مستوى مواجهتها أفضل، باستثاء الصين التي كانت حاسمة في قرار العزل وضبط الانتشار، لكن يبقى لافتا ما أصاب الولايات المتحدة الاميركية، لناحية العجز في ضبط الانتشار أو لناحية الفشل في ادارة عمل الأجهزة الطبية، وعلى الأقل لناحية التقدير الخاطىء لقدراتها الطبية في الحالات الطارئة.
من هنا، وحيث كان من المفترض أن تساعد الولايات المتحدة الاميركية الدول الأخرى في مواجهة الوباء، اذ إنها الدولة الأغنى وصاحبة الامكانيات العلمية والادارية الاوسع، رأيناها تنوء تحت عبء الاصابات وحالات الوفاة، مع تردد في اتخاذ القرار، والأهم، مع استسلام شبه كامل للوباء والاكتفاء بالصلاة لمنع انتشاره. فهل أصيبت الولايات المتحدة بالوباء بنسبة أكبر وأكثر قساوة مقارنة مع الدول الاخرى، أم أن فشلها وعجزها هو عضوي ومرتبط بهيكلية تنظيمها الاداري والطبي، بالتالي مرتبط بذهنية العمل لدى الادارة الاميركية بحيث تنسحب تلك الذهنية على أغلب سياساتها واستراتيجياتها وخاصة الدولية منها؟
لا يمكن القول إن دولة عظمى كالولايات المتحدة الاميركية، صاحبة نفوذ وسلطة دولية على العديد من الحكومات والأنظمة، وتترك ثغرة ادارية وطبية واستشفائية، تكون قاتلة لها في الحالات المماثلة لانتشار الكورونا اليوم، كما أن القدرة الواسعة والتفوق المُسيطر وراء البحار، والذي يهدف كما تدعي واشنطن دائمًا، لحماية الامن القومي الاميركي، بحيث تضع دائما هذا الامن مبرراً لتمددها وانتشارها عبر العالم في مئات القواعد البحرية والجوية والمواقع البرية، مع تكلفة باهظة تفوق ميزانية الدفاع لعشرات الدول الكبرى مجتمعة ( 738 مليار دولار موازنتها للدفاع لعام 2020 )، لا يمكن أن تتجاهل النقص الفاضح في القدرات المطلوبة لمواجهة الوباء، والذي يسبب عمليًا، أخطر استهداف للأمن القومي بتداعياته على المصابين والمتوفين من الشعب الاميركي.
هذا العدد الكبير من الاصابات ومن حالات الوفاة بين الشعب الاميركي، والتي سقطت فقط لعدم وجود كمامات بدائية للحماية أو أجهزة تنفس اصطناعي كافية، حيث لا يتجاوز ثمن مئات الالاف من تلك الاجهزة ثمن قاذفة اف 22 واحدة او ثمن قاذفة اف 35 واحدة، او بدل مصروف محروقات وديزل لحاملة طائرات بمسير إبحار لأقل من شهر في المحيطات، لا يمكن الا اعتباره سقوطا مدويا للادارة الاميركية التي عجزت عن حماية مواطنيها. وبمعزل عن أن الفيروس كان مفاجئاً للكثيرين، مع أن أكثر من جهاز أمني واستعلامي واستراتيجي رسمي أميركي قد نبه الرئيس ترامب من حتمية خطره على المجتمع، الأمر الذي لم يعنِ له شيئا وبقي على تعنته واستخفافه بالوباء، كان من المفترض على مراكز الدراسات الاميركية المتخصصة، والتي تعني باستشراف وتحليل كل التطورات والأحداث المرتقبة على الصعيد الدولي، كان عليها وضع احتمالات التعرض لخطر وباء معين، خاصة أن مسار وتاريخ وتأثيرات الأوبئة الخطرة والقاتلة ليس جديدًا، لا في العالم ولا في الولايات المتحدة الاميركية.
من هنا، لا يمكن أن نفصل طريقة وذهنية ادارة واشنطن والرئيس ترامب بالتحديد بمواجهة الوباء، عن طريقة وذهنية ادارة سياساتهم الاستراتيجية في العالم، فالاستخفاف الاميركي بالوباء بداية، لا يختلف عن الاستخفاف الاميركي بالدول وبالحكومات حتى "الحليفة" - اذا كان لهم حقيقة حلفاء، وما رافق أو سبق الأزمة الوبائية حاليًا من تصرفات مهينة مع الدول الاوروبية، بداية في محاولة احتكار الدواء الالماني الذي يُعمل عليه، والذي كان من المحتمل أن ينجح في مواجهة الفيروس، أو في قرصنة واشنطن للمعدات الطبية المطلوبة أوروبيًا، والتي تحتاجها في المواجهة وفي ادارتها الظهر لأي تعاون مع تلك الدول، أو في التصرف الأميركي المسيء مع الصين بتسمية الوباء بالصيني، مع ما يحيط بالموضوع من غموض وشبهات لا تستبعد تورطا أميركيا في نشأة الفيروس بطريقة أو بأخرى، كل ذلك يوحي بأن سياسة واشنطن لا تختلف كثيرا في الملفين.
ويبقى اللافت والمثير للاهتمام، أن هناك الكثير من المعطيات المشتركة في ذهنية واشنطن، بين ادارتها لعملية مواجهة الكورونا وبين ادارتها للسياسات الدولية، الأمر الذي يمكن توصيفه بالأكثر خطرًا وتأثيرًا على المجتمع الدولي، لناحية التسبب بالمآسي وبالحروب المدمرة على خلفيات التسلط والهيمنة التي تمارسها، أو لناحية فرض العقوبات تعسفًا، وذلك بطريقة مناقضة للقوانين الدولية ولشرعة حقوق الدول والانسان.
فهل تستطيع الولايات المتحدة - وبعد أن ظهرت سياستها على حقيقتها السيئة أمام هذه الأزمة العالمية - الاستمرار في نفس الذهنية في التعامل مع الدول والحكومات والمؤسسات الدولية، أم أنها سوف تُجبَر على تغيير سياساتها ومقارباتها للأمور تبعًا لانكشافها على صعيد مجتمعها او على الصعيد الدولي؟ عسى أن لا تطول الاجابة على هذا السؤال كثيرا، وذلك بعد الانتهاء من أزمة الوباء قريبا باذن الله.