استعجال التطبيع.. أي نجاح للدور الأميركي الفاعل؟
شرحبيل الغريب
الجهد الأميركي الحالي في المنطقة يفسّر أنّ إدارة بايدن أعادت حساباتها من جديد تجاه ملفات المنطقة، وهو يأتي بعد الانفتاح السعودي الإيراني وعودة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، ما شكّل خطوة مفاجئة لكثير من الأطراف.
كشف موقع "أكسيوس" الأميركي أنَّ إدارة الرئيس بايدن أرسلت مبعوثها إلى الشرق الأوسط بريت ماكغورك في زيارة وصفتها بالمهمة للسعودية بهدف لقاء مسؤولين سعوديين، منهم ولي العهد محمد بن سلمان، لإقناعه بالمضي قدماً في مسار التطبيع مع "إسرائيل" وتوقيع اتفاق رسمي خلال الأشهر القليلة المقبلة.
الجهود الأميركية الدبلوماسية في المنطقة وزيارة المبعوث الأميركي جاءت بعد زيارة قام بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن منذ أسبوعين، وكل الزيارات تتم بغطاء كامل من البيت الأبيض، في حراك أميركي واضح بعد تراجع الدور الأميركي وانشغال الإدارة بملفات دولية وإقليمية كبرى.
تاريخياً، وتحديداً عام 1978، عارضت السعودية اتفاق "كامب ديفيد" الذي أبرم بين مصر و"إسرائيل"، ومن ثم أعلنت السعودية موقفها تجاه القضية الفلسطينية بمبادرة قدمتها باسم "المبادرة العربية"، تلاها عدد من المواقف السعودية السياسية تجاه قضية التطبيع، جاءت على لسان مسؤولين سعوديين شرط إيجاد حل للقضية الفلسطينية، فما الذي تغير في الموقف السعودي؟ وفي أي سياق يمكن قراءة الزيارات المكوكية والحراك الدبلوماسي الأميركي في المنطقة هذه الفترة؟
الجهد الأميركي المنصب حالياً يفسّر أن إدارة بايدن أعادت حساباتها من جديد تجاه ملفات في المنطقة، ويأتي بعد الانفتاح السعودي الإيراني وعودة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، ما شكل خطوة مفاجئة لكثير من الأطراف، بعدما فشلت الإدارات الأميركية المتعاقبة في صناعة حلف وكيان موازٍ لإيران من خلال جلب "إسرائيل" إلى جانب دول عربية عبر توقيع اتفاقيات تطبيع رسمية معها.
من الواضح أن السياسة السعودية الجديدة تشهد حالاً من التحول الواضح، وهي سياسة قائمة على تصفير المواجهة وبناء علاقات جديدة متوازنة بعيداً من حال الصدام، والمتابع للسياسة السعودية الجديدة يدرك تماماً أن طبيعة هذا التحول ومستواه ليس سياسياً، بل هو اقتصادي أيضاً، إذ إن استمرار الصراعات الدائمة شكل للسعودية حال استنزاف وتراجعاً لدورها في المنطقة.
استعجال الإدارة الأميركية توسيع دائرة التطبيع ونطاقه ومحاولات جلب السعودية إلى محور "إسرائيل" قبل الانتخابات الأميركية بدا واضحاً، إذ تنشغل الأوساط الأميركية وحراكها الدبلوماسي في المنطقة بتوسيع مشروع اتفاقيات التطبيع مع "إسرائيل" وجلب السعودية إليها، لكنَّ مثل هذا المخطط يصطدم بموقف سعودي واضح بضرورة إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية.
الإصرار السعودي على هذه المسألة بالتحديد يعطي دلالة واضحة على أن مؤشرات مسار الخلاف ستزداد أكثر خلال الفترة المقبلة بين السعودية وإدارة بايدن، وخصوصاً بعد دخول الصين على خط القضية الفلسطينية واستقبالها مؤخراً الرئيس الفلسطيني واستعداد بكين للقيام بدور عملي واضح في الملف الفلسطيني.
هذا الأمر يعطي مؤشراً على أن مسار التنافس بين أميركا والصين بدأ بالفعل في هذا الملف وملفات أخرى، وهذا يفسر أن النشاط الأميركي الآني مهمة صعبة أمام كل هذه العوامل والمعطيات المهمة، وخصوصاً بعد فقدان أوراق الضغط والقوة أصبح الحال ليس كما كان في السابق.
من الصعب أن ترضخ السعودية في هذه المرحلة لأي ضغوط أميركية في ملف التطبيع. وبعيداً من هوية الإدارة الأميركية التي تحكم أو الإدارة القادمة التي ستحكم أميركا، بات واضحاً أن سلوك السياسة الخارجية السعودي الجديد قائم على البراغماتية وتحقيق المصالح في الدرجة الأولى.
المعادلة الجديدة في المنطقة تتمترس خلف موقف سعودي واضح من القضية الفلسطينية وسلوك إسرائيلي يرفض الإقرار بالحقوق الفلسطينية في ظل حال من التوتر وعدم الرضا الأميركي عن نتنياهو وحكومته الحالية، والذي لم يدعَ حتى الآن إلى لقاء رسمي مع الرئيس الأميركي، ما يعكس اضطراب العلاقة بين إدارة بايدن ونتنياهو، إذ تعتبر حكومته عقبة كبيرة لها في المنطقة، ما أدى إلى فشل المخطط الأميركي في المنطقة ونشوء حلف جديد يضم الصين وروسيا وإيران ودولاً أخرى، ويقوم على الانفتاح وتصفير المشكلات وإعادة بناء المنطقة من جديد.
لجوء الإدارة الأميركية إلى الضغط على الدول العربية من أجل القبول بـ"إسرائيل" نابع من سببين:
الأول: أميركي داخلي ينطلق من حال التأييد ودور اللوبي الصهيوني المؤيد والفاعل جداً والمؤثر في الكونغرس الأميركي، والذي يمارس ضغوطاً على الإدارة لتنفيذ توجهاته.
الثاني: استراتيجي خارجي نابع من فقدان الثقة الأميركية بأي أطراف في المنطقة، ما عدا "إسرائيل"، باعتبارها، وفق قناعتها، تشكل امتداداً للهيمنة الغربية، وتعتبر وجودها في المنطقة وجوداً لمركز متقدم للولايات المتحدة، وتعتبرها الضمانة الأوفر لها أمنياً واستراتيجياً وعسكرياً.
تسير المنطقة في اتجاه مشهد مختلف تماماً عن رغبة الإدارة الأميركية الحالية، وهذا يسجّل من خلال التحرك الواضح لعدد من الدول نحو الصين، وطبيعة هذا التحرك ستؤدي إلى نوع من الموازنة في المواجهة الأميركية وعدم الانصياع إلى الرغبات الأميركية ورفض الضغوط الجارية، لكن نجاح هذا المسار يحتاج أيضاً إلى موقف عربي موحد من الدول العربية، بعيداً من السلوك الفردي لكلّ دولة على حدة وإنهاء المنافسات العربية القائمة.
في حسابات الربح والخسارة تجاه مشروع توسيع دائرة التطبيع مع "إسرائيل"، ستختار السعودية الإصرار على شروطها ومواقفها الثابتة من القضية الفلسطينية أكثر انطلاقاً من موقعها كدولة تحتل مكانة في العالم الإسلامي، وستحافظ على سياستها الخارجية، ولن يكون بمقدورها التفريط أو الانجرار إلى الضغوط الأميركية، لأن ذلك سيضعفها كثيراً ويضعها في موقف محرج للغاية.
انفتاح السعودية على إيران في الآونة الأخيرة أعطاها ورقة قوة القبول والرفض أكبر وأكثر من ذي قبل، ونجاحها في التخلص من مثل هذه الأزمة العالقة دفعها إلى التقدم أكثر في طرح موقفها بشكل واضح تجاه مشروع التطبيع. وفي المقابل، أصبح الموقف الإسرائيلي أضعف.
الخلاصة، قوة إيران في المنطقة كدولة صاحبة مشروع، وإنجازاتها السياسية والدبلوماسية الأخيرة مع الانفتاح السعودي عليها برعاية صينية، معناهما أن "إسرائيل" باتت في موقف أضعف بكثير مما كانت عليه سابقاً، وخصوصاً أننا نعيش في عصر جديد، فالمتابع للسياسة الإيرانية يدرك أن إيران تفكر بعقل إمبراطوري متميز، ونجاح السياسية الخارجية الإيرانية وتحقيق إنجازات واضحة في هذا الصدد أعطاها أحقية كبيرة، وساهم في تقدم مشروعها ودورها ومكانتها في المنطقة وتراجع مشروع التطبيع، ولعل أهم وأبرز القضايا التي عززت موقف إيران خلال السنوات الطويلة الماضية وحتى الآن هو دعمها الكبير الواضح للقضية الفلسطينية المقاومة سياسياً ومالياً وعسكرياً.