بوتين يؤكد مشروعيّة عمليّته في أوكرانيا ويكذّب توقعات التصعيد أو التراجع…
العميد د. أمين محمد حطيط
بأبّهة وعنفوان واعتزاز قيصريّ احتفل بوتين بالذكرى ٧٧ للنصر على النازية، نصر كانت كلفته باهظة جداً على روسيا والاتحاد السوفياتي، والذي كانت تشكل هي نواته ما يجعلها اليوم أيّ روسيا وبعد تفكك الاتحاد المالك لهذا النصر هي الوريث الشرعيّ له والمسؤول عن المحافظة على مكتسباته بعدها.
احتفل بوتين بالنصر ووجّه كلاماً مركزاً حمل رسائل هامة وقاطعة كان ينتظرها الكثير من القوى والجهات والأطراف في العالم لمعرفة مسار المواجهة في أوكرانيا على ضوء ما آلت إليه حتى الآن، تلك المواجهة التي انفجرت ميدانياً مع إطلاق روسيا للعمليّة العسكرية الخاصة في أوكرانيا، محدّدة أهدافها بأمرين أساسيين: الأمن القومي لروسيا الاتحادية وأمن الجماعات والأشخاص من أصل روسي في إقليم الدونباس في شرق أوكرانيا على الحدود مع روسيا.
لقد تعدّدت التوقعات حول ما سيعلنه بوتين في يوم النصر من مواقف ترسم مسار تلك العملية، فكان مَن قال إنّ بوتين سيعلن الحرب الشاملة على أوكرانيا ومن يدعمها في الغرب، وكان مَن ينتظر أن يعود بوتين إلى التهديد مرة أخرى باللجوء الى استعمال السلاح النووي ووضع التهديد موضوع التنفيذ القريب لحسم المواجهة. وفي المقابل كان من ينتظر وبشكل لا ينسجم مع طبيعة بوتين وأحلامه كان ينتظر أن يضع بوتين الأسس في خطابه للتراجع من أوكرانيا تحت وطأة الخسائر التي تكبّدها بظنهم والضغط الاقتصادي الذي يمارس عليه بشكل غير مسبوق في العالم.
أما بوتين في كلمته العميقة والمقتضبة والغنيّة بالمواقف القاطعة، فإنه لم يحقق ولم يستجب لهذه التوقعات والظنون وأجاب في كلامه على أسئلة تطرح من هنا وهناك، وحدّد أسباب هذه العملية الخاصة في أوكرانيا وأهدافها والمعايير التي تضبط مسارها وإنهائها… وفي هذا يمكن القول بأن روسيا تعرف ماذا تريد وهي عازمة على الذهاب الى المدى المناسب لتحقيقه وفقاً لما يلي:
أولاً انّ روسيا تقوم في أوكرانيا بقتال دفاعي أجبرت عليه للدفاع عن أمنها القومي وعن أمن الروس في إقليم الدونباس والقرم، حيث إنّ الوضع في تلك المناطق كان يُنذر بمخاطر كبيرة على السكان نتيجة ما كان يحضر لها من حرب إبادة واجتثاث ستشنّها على الإقليم حكومة كييف والعصابات النازية الجديدة، وبالتالي كانت المواجهة واقعة لا محالة فجاءت العملية الروسية لتستبق العدوان على إقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم وبالتالي جاءت العملية الروسية لتشكل حرباً استباقية تنفذ بمفهوم دفاعي لدرء خطر محدق بالسكان مؤكد الوقوع يهدّد حياة السكان من أصل روسي يفرض الواجب الدفاع عنهم وعن أمنهم وحقوقهم المشروعة.
ثانياً إنّ روسيا حاولت بشتى الطرق تجنّب هذه المواجهة وسعت الى «حوار نزيه مع الغرب» الذي يقف وراء حكومة كييف ويحتضن الجماعات القومية والنازيين الجدد، لكن الغرب صمّ أذنيه ولم يستجب للدعوة الروسية «وعبثاً لم ترغب دول الناتو في سماع تلك الدعوة» على حدّ قول بوتين لا بل كانوا يريدون كسر روسيا ودفعها للتسليم لهم. وبالتالي يتحمّل الغرب مسؤولية ما حصل لكونه هو مَن شجّع أوكرانيا على انتهاج سياسة الاستفزاز والعدوان، وهو من أحجم عن فتح باب حوار للحلّ وهو مَن يمنع كييف اليوم من التفاوض الجدي للوصول الى حلّ ينهي المواجهة ويضمن الأمن الفعلي للمنطقة.
ثالثاً إنّ روسيا ترى في الوضع الميداني والمواجهة القائمة حالياً في أوكرانيا امتداداً لما حصل قبل ٧٧ عاماً من مواجهة مع النازية الهتلرية، وإنّ روسيا التي انتصرت في السابق وكسرت النازية القديمة عاقدة العزم على الانتصار على النازية الجديدة ولن تتراجع عن تحقيق هدفها الأمني القومي هذا مهما كانت التضحيات فالمسألة تتعدّى المصالح الآنية العابرة لتدخل في صلب الأمن القومي والوجود الروسي ذاته.
رابعاً إنّ روسيا وضعت أهدافاً واضحة لعمليتها الخاصة في أوكرانيا وهي تتحرك مع ضوابط صارمة لتحقيقها، وبالتالي فهي ليست معنيّة اليوم بالتصعيد او تطوير الحرب لتتعدّى منطقة الأهداف تلك، كما أنها غير مستعدة مطلقا للتراجع ووقف العملية قبل تحقيق أهدافها تلك. أما الأهداف فهي وبكلّ وضوح كما أكد عليها بوتين في كلمته هي من «أجل الشعب الروسي ومن أجل الشعب في الدونباس والقرم». وعليه لا يكون بوتين معنياً بتوسيع الحرب الى الغرب خارج هذه المناطق كما أنه لن يسمح بالمسّ بهذه الأهداف في تلك المناطق. وقد اختارت روسيا من أسلحتها لتشركه في العرض العسكري الذي أجرته في هذه المناسبة ما يؤكد على قوتها وقدرتها على تحقيق أهدافها المحدّدة بما في ذلك السلاح النووي الرادع.
وفي الخلاصة فإنّ بوتين وبشكل واضح خيّر خصومه وأعداءه عامة والناتو وأميركا خاصة، بين حرب جهّز لها متطلباتها ويستطيع تحمل أعباءها بكلّ اقتدار، او حوار وتفاوض يضمن لروسيا وللروس عبر الحدود أمنهم ومصالحهم المشروعة، أما المراهنة على تعب روسيا او وهنها أو عجزها في المواجهة، فإنه رهان في غير محله وسيرتدّ سلباً على المراهنين والمجازفين. فروسيا على حدّ قول بوتين «تحارب في الدونباس من أجل روسيا ومستقبلها» وهو هدف تهون أمامه التضحيات مهما غلت. ما يعني انّ روسيا لن تتراجع حتى ضمان ذلك ولن توسع عمليتها، لأنها غير معنية بهذا التوسع، لكنها جاهزة للردّ على أيّ عدوان واستفزاز عند حصوله أو عند اليقين باقتراب حصوله ما يبرّر التعامل معه بشكل استباقيّ.