«أمن الملاحة» في «الشرق الأوسط» مشروع أميركي مزدوج!
د. وفيق إبراهيم
تضرب الجيوش الأميركية منذ ثلاثة عقود متواصلة في كل اتجاهات الشرق الأوسط في محاولات واضحة لترويضه ضمن الفلك الأميركي لقرن على الاقل وبشكل كامل.
اسباب هذا الاهتمام محاولة للاستفادة من مرحلة الاحادية الأميركية في ادارة العالم للإمساك بقلبه الاستراتيجي والاقتصادي بما يحول دون نشوء قوى دولية صاعدة تطرح نفسها شريكاً «للجيوبوليتيك» الأميركي، لكن المشروع الأميركي تعثر في أفغانستان التي فرضت على الأميركي التفاوض مع «طالبان» ذات الجذر القاعدي الإرهابي لوقف الحرب المندلعة والمتواصلة فيها منذ 2001 وبناء نظام سياسي جديد.
كذلك العراق الذي يواصل مقاومة الاحتلال الأميركي منذ 2003 أما سورية فلقّنته درساً عرقل القسم الأكبر من مشروعه الذي كان يتجه للإمساك بها لبناء الشرق الأوسط الكبير المفتت الى كانتونات صغيرة.
لقد عبث الأميركيون ببلدان الشرق الأوسط مواصلين سياسات التدمير إنما من دون نتائج سياسيّة حاسمة، فلا افغانستان استسلمت ولا العراق والحرب مندلعة في ليبيا والصومال فيما استقرار السودان ليس محسوماً ومعها الجزائر ومصر المضطربة.
إلا أن الأميركيين شعروا بفشل مشروعهم من خلال عجزهم عن إسقاط إيران وسورية المحورين في الشرق الأوسط، فالجمهورية الإسلامية صامدة في وجه الأميركيين منذ أربعين عاماً على الرغم من تطويقها ومحاصرتها ومنعها من الاستيراد والتصدير على المستوى العالمي أما سورية فنجحت مع تحالفاتها في إيران وروسيا وحزب الله في إفشال المشروع الأميركي وحصره في شرق الفرات بين الصراعات التركية والكردية.
لذلك يعكف الأميركيون على بناء خطة جديدة بآليات متغيرة، تؤدي إلى النتائج الأساسية التي ينشدها الأميركيون.
انطلقوا من فكرة أن الشرق الأوسط بأجنحته العربية والإيرانية والتركية والكردية بمضمون إسرائيلي هو قلب العالم بالنفط والغاز والاستهلاك أي ما يلزم الاقتصاد الأميركي لمواصلة الإمساك بالتفاعلات الاقتصادية في العالم او بالأحرى الجسر المؤدي الى هيمنة كاملة للنفوذ الأميركي يبتدئ بمقاربات عسكرية وسياسية منتهياً بالإمساك بيد حديدية على الاقتصاد.
لذلك وضع الأميركيون خطة لتحقيق هدفين استراتيجيين تحت مسمّى أمن الملاحة باحثين في العالم عن مدد دولي يمنحها شرعية أممية، باعتبار ان اكثر من ثلاث دول أعضاء في مجلس الامن الدولي لن توافق على منح شرعية الأمم المتحدة لمشروع أمن الملاحة في الشرق الأوسط ما دعا الأميركيين الى الاستنجاد بحلفائهم في العالم زاعمين انهم وجدوا ثلاثين دولة قبلت بالانتساب الى جبهة أمن الملاحة، من بينها البحرين وأستراليا وكوريا الجنوبية والسعودية و»إسرائيل» وبريطانيا. وهذا يؤكد ان معظم اوروبا بركنيها الفرنسي والالماني الى جانب الهند وتركيا والصين وروسيا والعراق وعشرات البلدان الوازنة ترفض الاشتراك في أمن الملاحة المزعوم في الشرق الأوسط، فهل ينجح المشروع الأميركي؟ وماذا يريد؟
يريد الأميركيون السيطرة على المداخل والمخارج البحرية للشرق الأوسط كبديل نوعي للاحتلال البري وبذلك يقطعون الاتصال بين هذه المنطقة الحيوية مع العالم بذريعة توطيد أمن الملاحة فلا تدخل بارجة إلا بإذنهم ولا تخرج أخرى إلا بموافقتهم، فيضعون بذلك أيديهم على معظم حركة التبادل الاقتصادي والنفط والغاز ويعوّضون بهذه الطريقة عن الاحتلال البري للدول.
هذا هو الجزء الأول، أما الثاني فهو قطع علاقات روسيا والصين الاقتصادية بالمنطقة، إلا ما يقع في إطار تحالفاتهم كسورية مثلاً التي تصبح من دون شرقي الفرات منطقة النفط السوري وبحركة محدودة بحرياً تؤثر على استخراج الغاز من الجزء السوري من البحر الأبيض المتوسط. هذه الطريقة تؤدي كما يعتقد الأميركيون الى التعويض عن خسائرهم في اليمن وسورية والعراق ولبنان، واستعمال الدور الكردي لتفجير ايران والعراق وسورية وصولاً الى الداخل التركي نفسه.
لجهة روسيا والصين، فإن حرمانهما من المدى الاقتصادي للشرق الأوسط والتحالفات السياسية، يستطيع إرجاء منافستهما للاحادية الأميركية الى نصف قرن جديد، وهذا ما يُصرّ عليه الجيوبوليتيك الأميركي حالياً باذلاً كل نفيس في سبيله.
ماذا الآن عن الفريق الرافض؟
لن تقبل إيران بالاستسلام لمشروع الاستعمار الأميركي من خلال أمن الملاحة وكذلك سورية. أما بالنسبة لروسيا والصين فهما متجهتان لرد التحدي الملاحي بآخر من عياره، وربما أقوى بتكوين أمن ملاحة مع إيران والعراق وسورية على أن تنضم اليه دول من آسيا وأميركا الجنوبية وأفريقيا. وهذا يفرض على الأميركيين الاكتفاء بالسيطرة على الجزء الخليجي من شبه الجزيرة، وهذا الجزء العربي تابع للأميركيين من دون أمن ملاحة منذ 1945 بما يؤكد الفشل المسبق للمشروع وانقسام الشرق الأوسط بين الثلاثي الأميركي الروسي والصيني، حسب مصالح بلدان هذه المنطقة سياسياً واقتصادياً.
لذلك فإن مشروع أمن الملاحة ذاهب الى فشل كبير موازٍ لفشل المشروع الإرهابي وأسلحة الدمار الشامل ونشر الحضارة والديموقراطية وكلها مشاريع حاول الأميركيون الترويج لها لدخول المنطقة من خلالها. ويبدو أن مشروعهم الجديد في الملاحة ذاهب الى غرق قريب ما يدفع المراقبين الى التساؤل عن هوية المشروع الأميركي البديل عن أمن الملاحة والقابل بدوره لسقوط مريع أمام حلف كبير تلعب فيه سورية وإيران دور المدافع الشرس عن أمن الشرق الأوسط ببحاره وأراضيه وكامل أنحائه.