kayhan.ir

رمز الخبر: 98650
تأريخ النشر : 2019August02 - 19:42

كيف يكون "العهد" الاستثنائي تاريخياً؟


د. وفيق إبراهيم

تتراجع الديموغرافيا السكانيّة المسيحيّة في لبنان بمعايير مثيرة للقلق، وبشكل تترك فيه تداعيات على وزنها السياسي في بلد كلبنان تحكمه أحجام الطوائف وعلاقاتها بالخارج الإقليمي والدولي.

ما يؤسف له هنا، أنّ استشعار القوى الطائفية لأيّ تراجع سكاني عند طائفة أخرى، يؤسّس فوراً لمطالبتها بضرورة إلغاء «الطائفية السياسية» او اعتماد اسلوب «الغُلب العددي» في إطار من الشحن الاجتماعي والسياسي المهدد للاستقرار والبعيد كلّ البعد عن إرساء معادلة للانتقال الفعلي نحو اندماج وطني حقيقي.

هذا ما يجري وسببه هذه المرة مباراة لأخذ موظفين عن طريق مجلس الخدمة المدنية انتهت الى نتائج «طبيعية جداً» في بلد يشكل الشيعة والسنة فيه نحو سبعين في المئة من السكان، كما تقول إحصاءات «سرية» تتسلل كلصّ يخرج من عتمة قاتمة.

أما سبب هذا التغيير الكبير في أعداد الطوائف فمردّه الى التسهيلات الخارجية لاستقبال المسيحيين اللبنانيين أكثر من غيرهم، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة التي انتشر فيها الإرهاب «الإسلاموي» عالمياً متحوّلاً «فزاعة» أصابت بشظاياها الابرياء، بالإضافة إلى تدني المواليد لأسباب ثقافية طبقية، من دون نسيان التزوير الذي مارسه الاستعمار الفرنسي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، في إحصاءاته لعديد الطوائف، وذلك في تبرير ديموغرافي لتسليم الدولة الناشئة للقوى المسيحية لهم حصراً، فمن يصدّق انّ الشيعة ازدادوا في 65 سنة فقط 900 مرة في حين أنّ الكتل السكانية حتى في البلدان الأكثر إنجاباً في الصين والهند تتضاعف على 25 سنة فقط، لكن هذا الأمر لم يعد مهماً لأنّ المطلوب حالياً هو معالجة الطائفية بوضعها في معادلة تراجعية تؤدّي إلى إلغائها فعلياً وليس مجرد نقل للصلاحيات من مذهب الى آخر، فتكون كمن يجدّد عاهاته بنقلها من مكان إلى آخر.

المشكلة إذاً، ليست في نقل الهيمنة بين المذاهب بل في سيطرة المذاهب رأس حربة الطائفية على السياسة في لبنان بما تعنيه من إدارات ورئاسات واقتصاد وقضاء وتعليم ودين.

فليس معقولاً كلما تراجع عديد طائفة أن تُعاملها الطوائف الأخرى وكأنها جالية من أصول أجنبية.

لذلك فإنّ مهمة العهد الحالي الاستثنائي أن يتعامل مع هذه «العاهة» بعمق خصوصاً أنه العهد الوحيد منذ أربعة عقود على الأقلّ يصل الى رئاسة البلاد محمولاً على متن غالبية شعبية وازنة فرضت على قوى الخارج الاستكانة والقبول مع شيء من الامتعاض لم يتمكن من التعبير عن نفسه للحجم الكبير للقوى الشعبية والسياسية المؤيدة لعون ولضعف القوى اللبنانية الموالية لهذا الخارج.

ألا تفرض هذه «الاستثنائية» التعامل العميق مع أخطر ظاهرة تواصل إضعاف لبنان بتفتيت سكانه الى مذاهب متناحرة لم تتمكن من تشكيل مجتمع موحد.

المطلوب إذاً دمج اللبنانيين وليس تحشيدهم ضمن فئات متنافسة والتوغل شعبوياً لكسب مؤيدين، ربما وللمرة الأولى يجب على الفئات المذهبية في لبنان أن تعرف أنها متساوية في الانتماء الى لبنان على أساس انّ كُتب التاريخ كتبتها أقلام حسب مصالح طوائفها فاخترعت من الروايات ما جعل لبنان موجوداً قبل ظهور التاريخ، فاختلطت الايديولوجيا بالجيولوجيا في توليفة لتبرير الهيمنة والسيطرة.

لذلك فالمعتقد أنّ الرئيس عون صاحب الدور التاريخي يرى الأزمة بعين ثاقبة فينظر الى أنحاء العالم متبيّناً تقدّم الدول التي نجحت في الدمج الاجتماعي بين قواها الطائفية والعرقية فتطوّرت. في المقابل يرى انّ الدول المنقسمة اجتماعياً لا تزال على الحال الذي كانت عليه في القرون الوسطى. ألا يدفعُ هذا الأمر الى البحث عن صيغة جديدة للبنان لا تقوم على أساس الخدعة؟

بالاستنتاج تنبثق فكرة «التدريجية» وسيلة ناجعة للبنان الجديد، على أن تبدأ بلبنان دائرة انتخابية واحدة انما ضمن معادلات تشترط المناصفة بين الطوائف والمذاهب وسط احترام تمثيل إلزامي للمناطق.

أما الأجزاء المكملة فهي ضرورة امتلاك كلّ حزب مشارك في الانتخابات لعشرين ألف منتسب على ان يكون نصفهم وأكثر من أبناء الطوائف التي يريد تمثيلها في المجلس النيابي.

فهذه معادلة تدفع نحو الوطنية بشكل تدريجي وتمنع الفوضى نحو المزيد من الطائفية بتدريجية أيضاً كما انها تجعل كلّ لبناني بحاجة الى اللبناني من الطوائف الأخرى وتضع حداً لسيطرة الطائفة الأكثر عدداً، ايّ أنها تفتح آفاقاً على لبنان الجديد، بمدة كافية من الزمن للانصهار الاجتماعي.

وهذا في النهاية منطق الحاجة الى الآخر إنما من دون الانصياع له.

هناك خطوة أخرى لا تقلّ أهمية عن الأولى، وهي «إلغاء» التعليم الديني من المدارس الخاصة والرسمية والجامعات بشكل كامل مع علمنة التعليم وحذف ما يُضاف إليه من روايات وأساطير تلغي العقل وتصنع خريجاً طائفياً يكاد يمتشق بندقية طائفية فور تخرّجه مرتلاً أهازيج لمديح المقدسين التاريخيّين والسياسيّين.

فهل هذا ممكن؟ أزمة النظام السياسي اللبناني الحالية، تشجع على تبنّي معادلات جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالمسألة ليست مباراة في الخدمة المدنية أو كمين قبرشمون بقدر ما تعكس أزمة نظام سياسي استهلك كلّ مقدراته الداخلية وسط حرب خارجية خففت من حجم الاهتمام الإقليمي به، فازداد انكشافه وظهرت عوراته غير القابلة للإصلاح حتى ولو نجح الوسطاء في تأمين انعقاد جلسة لمجلس الوزراء، فهذه الخلافات قابلة للتكرار يومياً والشعب وحده يدفع الثمن في تحشيده واستغلاله ودفعه الى الهجرة.

إنّ التغيير التدريجي لقاعدة إنتاج السلطة في لبنان وإعادة الدين الى إطار العلاقة بين المؤمن وربه في أعلى السماء، هما من أفضل الوسائل المنتجة لنظام فعلي ينتج استقراراً سياسياً واجتماعياً، متصدّياً لفساد سياسي يسرقُ لبنان وأبناءه برعاية الدين والإقليم وقوى الخارج وعجز اللبنانيين الضائعين بين انتماء طائفي يزيد فقرهم وترحيلهم أو ضرورة البحث عن خيار وطني. وهذا ما يتجهون إليه حالياً مع العهد الاستثنائي.