البيشمركة في كوباني : تعقيدات الجيوبولتيك الكردي
د. دياري صالح مجيد
منذ ان بدات الهجمة الشرسة للتنظيمات الارهابية على كوباني والاوضاع الاقليمية في حالة تازم كبير خاصة بالنسبة لتركيا وكذلك بالنسبة لاقليم كردستان العراق . فتركيا اتهمت مرارا بانها هي الراعي الحقيقي لداعش وهي التي تصر على تصفية القضية الكردية بعيدا عن اراضيها عبر جر الاكراد والفصائل المسلحة التابعة لهم في حرب استنزاف طويلة ستقود بالنتيجة الى اضعافهم بالطريقة التي تسمح لانقرة بفرض املاءاتها عليهم في عملية السلام التي تريد من خلالها تركيا العمل على انهاء هذا الملف على الاقل داخل الاراضي التركية .
اما في اقليم كردستان الذي ينظر له بقية الاكراد على انه نموذجهم الذي يمنون النفس بتطبيقه في مناطقهم حين تكون الفرص والتحولات الجيوبولتيكية ملائمة لذلك , كان هو الاخر يعيش ارهاصات داخلية كبيرة بفعل الضغوطات الشعبية التي مورست على اكثر من صعيد مطالبة الحكومة هناك باتخاذ مواقف مناسبة ترتقي وحجم الخطر الذي يتهدد كوباني .
مابين الموقفين تصاعدت التظاهرات في الداخل التركي وفي بقية اجزاء كردستان وخارجها للمطالبة بالضغط على القوى الفاعلة لتغيير مواقفها مما يجري قبل السقوط النهائي لهذه البلدة بيد الجماعات المتطرفة . وقد وصل الامر الى تحديد الاول من نوفمبر يوما لانطلاقات مظاهرات كبيرة في كثير من دول العالم لنصرة كوباني . ناهيك عن ما مورس من ضغوطات اعلامية دولية لها اهداف محددة لا تمت بصلة بالضرورة الى مصير الاكراد بقدر ما تسعى الى تغيير مسار السلوك التركي ليتوافق والرغبات الامريكية في هذا الملف .
للتخلص من هذا المازق نجحت فكرة ارسال قوات من البشمركة الكردية عبر الاراضي التركية الى كوباني بهدف توفير الاسناد الارضي للقوات المقاتلة هناك واستعادتها لزمام المبادرة في مواجهة التقدم المتسارع لقوات داعش . الا ان ذلك لا يعني بالمطلق بان انقرة قد غيرت من مواقفها السياسية المتصلبة من مجمل علاقتها بالاكراد خاصة وانها لازالت بعد تشهد منذ ازمة كوباني تصعيدا غير مسبوقا في تفاعلاتها الداخلية مع المجموعات الكردية التي تم تهديدها في اكثر من مناسبة بإيقاف مباحثات السلام التي يبدو بانها تمر في اكثر مراحلها ضعفا بسبب التطورات الاخيرة التي اعطت مزيدا من الدعم لحزب العمال الكردستاني .
الجيوبولتيك الكردي وتطلعاته الواسعة لازالت تشكل مصدر ارق دائم لتركيا . فواشنطن تتحدث صراحة عن انها لابد وان تتعاون في المجال الارضي مع وحدات حماية الشعب الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي في كوباني باعتبارها الالية المناسبة لانجاح الضربات الجوية في التصدي لمشروع داعش هناك . كما تتحدث عن ضرورة اشراك القوات النظامية الكردية التابعة للاقليم في هذا المسعى بكثافة عسكرية تسهم في استعادة التوازن لمصلحة مشروعها الرامي الى التوجه نحو النطاقات الاستراتيجية المهة في الرقة وحلب . وهو ما يثير لدى الاتراك المخاوف في ظل التاكيدات التي تشير الى ان الفصائل الكردية في سوريا تمثل اذرعا مباشرة لحزب العمال الكردستاني وان اي تقوية لادوارها تمثل تعزيزا لمكانة هذا الحزب تمهد للاعتراف به وفرضه كحالة قانونية لا يمكن المساس بها داخليا في تركيا .
يضاف الى ذلك الخشية من ان تقود هذه الرؤية الى اضفاء مزيد من التناغم في الادوار التي تمارسها الفصائل الكردية المختلفة لتوحيد جهودها الفعلية للتواصل الارضي الذي سيسمح لها لاحقا في اعلان استقلالها الذاتي في هذا النطاق الجغرافي الواسع الممتد بين سوريا والعراق , ليشكل ذلك تهديدا مباشرا للامن القومي التركي الذي وضع فكرة قيام الدولة الكردية كخط احمر لا يُسمح بتجاوزه من اي طرف كان .
في ظل هذه الحقائق بدات تثار العديد من التساؤلات عن حقيقة الخطوة المتعلقة بارسال القوات الكردية عبر تركيا وهل ستسمح فعليا بحصول تحولات استراتيجية على الارض في كوباني .
في هذا الصدد هنالك ثلاث وجهات نظر رئيسية ذات علاقة بالتصورات المفترضة للاجابة عن التساؤل السابق. الاولى تشير الى ان الاتراك ارادوا ان يخلقوا مزيدا من التعقيد في المشهد العسكري لكوباني عبر اقحام قوات البيشمركة في ساحتها خاصة وان هنالك اليوم حديث فعلي في الاوساط الكردية يشير الى حصول تصادم في الرؤى حول موضوع القيادة الميدانية ومن يملك القدرة على التحكم بحركة وادوار هذه القوات التي تصر قوات حماية الشعب الكردي بانها يجب ان تخضع لاوامرها المباشرة , في حين تصر حكومة اقليم كردستان على انها قوات لاتزال تخضع للاوامر الصادرة من وزارة البيشمركة في الاقليم .
الراي الثاني يشير الى ان الاتراك ارادوا ان يفككوا التوافق الكردي الداخلي في كوباني عبر اشتراط ارسال 200 مقاتل مما يسمى بالجيش السوري الحر لتواكب قوات البيشمركة في كوباني . ليحصل في هذا الموضوع تطورين مهمين الاول تمثل في اعلان بعض فصائل جبهة النصرة انها لن تقاتل داعش في حال انضم الجيش الحر الى الاكراد هناك , وهو ما يتزامن والاعلان عن وجود 200 كردي ذهبوا من اقليم كردستان العراق للقتال ضمن صفوف جبهة النصرة منذ ان بدات بالعمل على الارض السورية . ليشكل هذا الحدث نقطة تصادم محتملة بين اكراد جبهة النصرة والبيشمركة في تحضير لمشهد اقتتال كردي – كردي ستمتد اثاره الى خارج الجغرافيا الضيقة لكوباني باتجاه نطاقات كردستان المترامية . اما التطور الثاني فقد تمثل في تضارب الصلاحيات بين القوات الكردية وقوات الجيش السوري الحر التي اتهمت بانها تأتمر باوامر انقرة وبانها تحمل مشروعا سياسيا وليس عسكريا , وهو مشروع يهدد الداخل الكردي في تصديه لداعش . لذلك تم الاعلان مؤخرا عن عودة بعض مقاتلي هذا الجيش الى تركيا في ظل التضييق الكردي عليهم بفعل التوجس من الادوار التي قد يقومون بها هناك .
اما الراي الثالث الذي يفسر السلوك التركي في هذا الموضوع فيشير الى ان انقرة ارادت ان تسحب البساط من تحت اقدام القوى المرتبطة بحزب العمال الكردستاني وتازيم الموقف الامريكي هناك عبر خلق نوع ن الفوضى داخل منظومة هذه القوى من خلال خلق تحالفات جديدة ستسهم في اضفاء مزيد من الاضطراب الداخلي في تفاعلاتها من موضوع الازمة هناك . اذ اشارت الانباء مؤخرا الى ان تركيا ارسلت وفدا رفيعا الى اربيل للتباحث مع الاقليم حول تحقيق مزيد من التقارب مع الجيش السوري الحر على حساب اضعاف الادوار التي تؤديها قوات حماية الشعب الكردي والاتحاد الديمقراطي الكردي .
يبقى هنالك تصور اخر هو الاقل احتمالا في مصداقيته بفعل الكوابح العديدة التي تحجم من تاثيره الفعلي يشير فيه البعض الى ان الخطوة التركية قد جاءت في حقيقتها للعمل على الاستجابة للطلبات الامريكية لتحقيق نوع من التقارب مع واشنطن , كما ارادت من خلالها العمل على التاكيد لبقية الاكراد بانها مهتمة بمصير كوباني وبانها تنسق مع القيادات الكردية للحيلولة دون سقوط هذه المدينة بيد داعش . وهي تريد من وراء ذلك العمل على اقناع الاكراد على المضي قدما بموضوع التسوية الذي تتحدث عنه انقرة بطريقة يملأها الفتور في الاشهر الماضية .
ان الادراك الكردي لطبيعة التعقيدات الجيوبولتيكية المرتبطة بهذه الخطوة كانت تشكل احد التفسيرات المقبولة للتصريح الذي ادلت به القيادات الكردية والذي اكد على ان وجود قوات البيشمركة في كوباني هو وجود مؤقت قابل للتبدل في اي لحظة . وهي اشارة تؤكد بان حسابات الميدان والتفاعلات السياسية الاقليمية الخاصة بالعلاقة مع تركيا ستستهم بالنتيجة في تحديد مستقبل هذه الخطوة .
ان رؤية تركيا للادوار التي تريد لعبها في المنطقة تشكل مصدرا مهما من مصادر التشكيك بطبيعة ادراكها الجيوبولتيكي لخطوة ارسال القوات الكردية عبر اراضيها الى كوباني بفعل التعقيدات التي يتضمنها المشهد العام للاكراد في هذه المنطقة . لذا يقول في هذا الصدد الباحث التركي مراد قرينستون المختص بالجغرافيا السياسية في اجابته عن تساؤل يتعلق بتقييمه لدور تركيا في الاحداث الاخيرة وعلاقتها بترسيم الحدود ما يلي ” لا تشعر تركيا بالارتياح فيما يتعلق بالحدود الحالية وفقا للحقيقة التي تشير الى ان هذه الحدود قد اسهمت في قطع الصلات التاريخية بين العديد من الشعوب . ان تركيا لا تسعى فعليا الى تغيير الحدود الطبيعية بل تسعى الى ازالة الحواجز السيكولوجية التي تشكل حدودا جغرافية متخيلة . لذا تاريخيا يمكن القول بان النظام في الشرق الاوسط كان دائما يتشكل بعد الحروب الكبيرة . ولأجل تشكيل نظام جديد قد يكون هنالك حاجة لحرب ما في هذا الاقليم ”
العقيدة الجيوبولتيكية لتركيا تتشكل وفقا لهذه الرؤية في مسارات متعددة ربما السماح بدخول القوات الكردية الى كوباني يمثل واحدا من بين مدخلاتها المهمة لاثارة مشاهد فوضوية ستكون هي الرابح من ورائها بفعل قدرتها على الدخول الى عمق هذه الساحات والتحكم بمفاتيح اللعب فها على امل ان تسهم كل تلك التوجهات في خدمة مشروعها العثماني الذي لازال يمثل حلما يداعب صناع القرار فيها بشكل كبير .