“الاعتدال السنّي” ومرض التطرّف
غسّان جواد
دخل الى التداول الإعلامي والسياسي، مصطلحُ "الاعتدال السنّي” صفة موازية للتطرّف ومحاولة للتمايز داخل "البيئة السنّية” بين خطّين أحدهما "معتدل”، وآخر "متطرّف” خارج من التاريخ بسيف الإخضاع والغلَبة والسيطرة والإنتقام.
والحال هذه، لا شكّ في وجود قوى وشخصيات سنّية معتدلة، قد تمثّل الغالبية بالقياس الى القوى التكفيرية وتلك التي ترفض الآخر وتعمل على مبدأ "الصفاء المذهبي”، على غرار "دولة الاسلام الاولى” كما يأتي في أدبيّات تلك المجموعات.
لسنا هنا في رحلة بحثٍ مضنية عن معتدلين ومتطرّفين، الواقع ماثل أمامنا، والوقائع تتحدّث عن نفسها. القوى المتطرّفة ليست الاقوى، لكنّها الأفعل والأكثر حيوية وتعبيراً عن نبض الشارع المعلَن منه والمستتر.
هناك تاريخ كامل من الفكر الذي يُسعف المتطرّفين ويعطيهم مادة لتأكيد أفكارهم. بهذا المعنى يُشكّل هذا التاريخ مرجعية وحاضنة فكرية يعود إليها هؤلاء كمثال يتبعونه في تبرير وتفسير مسلكهم العنيف والغريب والمتوحش.
أما "المعتدلون” وعلى رغم قدرتهم على الإفادة من إرثٍ "اسلامي سنّي” قائم على التسامح وتقبّل الآخر، إلّا أنهم يهملون هذا الإرث ويرذلونه غالباً، ويعملون على منافسة التكفيريين في "ملعبهم”، وذلك من خلال تبنّي شعارات ومقولات سياسية ذات بعد مذهبي فاقع.
وليس أدلّ على هذا التزاحم بين ما يُسمّى الاعتدال وما يُسمّى التطرّف في البيئة السنّية سوى تقاطع الطرفين واتفاقهما على شعار سياسي بات أقرب الى الغيديولوجيا اسمه "المظلومية السنّية”.
لقد أصبحت "المظلومية السنّية” شعاراً سياسياً يستخدمه "المعتدلون” لكسب الشارع ومجاراته شعبوياً، ويستخدمه "المتطرّفون” في سياق تأكيد مشروعيتهم وتصدّيهم لرفع هذا الظلم. وفي الحالين يعكس هذا الطرح توافقاً مزدوجاً لدى الفريقين على تشخيص هذه "المظلومية” ووضعها في البازار السياسي لتبرير سياسات ومشاريع ومخطّطات لا تُحاكي الواقع بالضرورة، بل تُجافيه وتبتعد عنه عندما يبدأ الحديث في الحقائق والأرقام.
يتحدّث البعض عن الفقر والتهميش والتخلف بصفته بيئة حاضنة للتطرّف.
وينسبون هذه "الآفات” ويلصقونها بالمظلومية، في حين إنّ هذه المشكلات تجمع اللبنانيين جميعاً ولا تقتصر على طائفة أو مذهب معيّن. فالفقر والتهميش والحرمان حالات لبنانية مشترَكة عند سكان الاطراف، ولم تعالج القيادات "المعتدلة” التي تحكم على الاقل منذ العام 1943، هذه الامراض، بل عزَّزتها على قاعدة الإفادة من هذا المخزون البشري والحاجة المعنوية في النزاع السياسي، وحتى العسكري.
طرابلس قد تكون نموذجية في محاولة فهم هذا الكلام. في المدينة سياسيون ورجال دولة ووزراء ونواب وأثرياء دخلوا الشأن العام منذ تأسيس لبنان الكبير. وعلى رغم ذلك نجد أنّ نسبة الفقر والحرمان في المدينة مرتفعة جداً. فمَن المسؤول عن بقاء هذا الجرح الاجتماعي نازفاً؟
ولماذا لم يُعمَل على تطويقه ومكافحته؟ البعض يجيب استناداً الى أبعاد طبقية ويقول: يريدون أن يظلّ الفقير فقيراً حتى يَسهل استغلاله وتحريضه ودفعه نحو التطرّف، يريدونه جندياً في معاركهم يتخلّون عنه عندما تحين التسويات، ومن ثم يلصقون ذلك بالظلامة والمظلومية.
في بلدٍ مثل لبنان، وبعد "اتفاق الطائف” تحديداً، أصبحت الطوائف تحكم نفسها بنفسها، وتأخذ حصّتها من الحكم والتنمية والإنماء بفعل الدستور والميثاق. لبنان بلد فيدرالي بهذا المعنى، ولا يمكن تحميل الآخرين مسؤولية مرض يتفشّى في إحدى "الفيدراليات”، ولا يُمكن فهم ذلك إلّا في سياق الابتزاز السياسي ومحاولة وضع اليد على البلد وتهميش الآخرين وحرمانهم من مكتسباتهم، وعند هذا الحدّ يصبح الاعتدال صنو التطرّف والعكس صحيح.
شعار "المظلومية” هنا، هو الاسم الحَركي لخوض السياسة من منطلقات نفعية ومصلحية. مرّة تحت عنوان "التطرّف”، وأُخرى تحت عنوان "الاعتدال”. وفي الحالَين نحن أمام مرضٍ خطير بات يصعب علاجه بالسياسة ومشتقاتها من العلوم. إنه مسارٌ ثقافي إذا بدأ الآن يحتاج عقوداً لكي يتبلور، وفي الاثناء لا يزال المرض ينتشر ولا أحد يريد أن ينتبه أو يعالج جدياً.