الأزمة الاقتصادية ـ السياسية الأميركية.. نحو المجهول
جورج حداد
كان انتخاب دونالد ترامب رئيساً سنة 2016 مسألة اشكالية تحدث لأول مرة في تاريخ أميركا الحديث. إذ صعد ترامب الى سدة الرئاسة ليس من صفوف شريحة السياسيين المحترفين الذين "يمثلون" طبقة "البيزنسمان" الرأسمالية، بل من صفوف طبقة "البيزنسمان" مباشرة. مما يعني موضوعيا "نزع ثقة" ضمنياً أو "نزع وكالة" شريحة السياسيين المحترفين من قبل طبقة "البيزنسمان" التي انتقلت، بواسطة ترامب، الى ممارسة الحكم مباشرة.
فهل نجح "انقلاب ترامب" في تحقيق أهدافه؟
إن الوقائع الجارية لا تؤكد ذلك بل على العكس، إنها تشي بأن الأزمة الاقتصادية ـ السياسية في أميركا تتعمق أكثر فأكثر، ومن الصعب التنبؤ كيف ستسير الأمور بعد الانتخابات الرئاسية القادمة سنة 2020 والتي أخذ يتأهب لها دونالد ترامب ومؤيدوه منذ الآن.
في مطلع سنة 2017 وبعد أدائه القسم أقر ترامب اصلاحاً ضرائبياً كبيراً يتمحور حول لائحة طويلة من الاعفاءات الضرائبية لحركة التوظيفات والاستثمارات، مما انعكس ايجاباً على قطاع "البيزنس" بمجمله. وهذه هي النقطة الايجابية الوحيدة التي سجلها "انقلاب ترامب". ومع ذلك تدل الاحصاءات أن ترامب لم يستطع تحقيق نسبة نمو اقتصادي 3% كما كان يريد. مقابل نسبة نمو 6.2% في الصين (بالرغم من انخفاضها بفعل الحرب التجارية). وتشير التوقعات الى أنه مع نهاية مفعول الاصلاح الضرائبي الترامباوي سنة 2021 فإن معدل النمو الاقتصادي الاميركي سينخفض بشكل دراماتيكي الى نسبة 1.6%، مما يهدد بانفجار أزمة تضخم وبطالة كبرى في الولايات المتحدة الاميركية.
ولكن في الانتخابات النصفية للكونغرس التي جرت الخريف الماضي، والتي كان فريق ترامب واثقاً من كسبها، تلقت ادارة ترامب "هدية مسمومة" من الناخب الاميركي، وهي انتخاب كونغرس منقسم على نفسه، اذ حصل "الديمقراطيون" على الاكثرية في مجلس النواب (الغرفة الدنيا للكونغرس) وحصل "الجمهوريون" على الاكثرية في مجلس الشيوخ (السيناتورات) (الغرفة العليا للكونغرس). وبموجب الدستور الاميركي فإن أي مشروع قانون أو مرسوم لا يمكن أن يمر ويصبح ساري المفعول بدون أن تتم المصادقة عليه من قبل الأكثرية في مجلسي النواب والشيوخ على السواء. وهكذا صار من المحتم أن تصطدم كل قرارات ومراسيم ومشاريع قوانين ادارة ترامب بجدار الأكثرية "الديمقراطية" المناوئة له في مجلس النواب.
وكان ترامب، خلال حملته الانتخابية الرئاسية وبعد دخوله البيت الأبيض قد شن واستمر يشن حملة شعواء ضد قوانين واجراءات تسهيل الهجرة الى الولايات المتحدة، بما في ذلك بالأخص الهجرة غير الشرعية من أميركا اللاتينية عبر الحدود مع المكسيك. وكانت هذه التسهيلات تتم ليس من أجل أسباب انسانية، بل من أجل ايجاد ضغط دائم على سوق العمل في الاقتصاد الاميركي الضخم، وبشكل خاص من أجل امتصاص اليد العاملة الوافدة، الشابة، والكفوءة، والرخيصة. وبالنسبة للحدود المكسيكية اتخذت الأمور طابعاً دراماتيكياً سوريالياً، اذ إن السياسة الاميركية للهيمنة على أميركا اللاتينية ونهبها وافقارها، المستمرة منذ قرون، بدأت تعطي "ثمارها التاريخية" حيث أخذ مئات الآلاف وملايين الاميركيين اللاتينيين الفقراء يتركون كل شيء خلفهم ويتوجهون بكل وسائل النقل وسيراً على الاقدام قاصدين الحدود المكسيكية ـ الاميركية، وينامون في العراء بمساعدة الطقس الدافئ بانتظار أن يأتي دور كل عائلة للتسلل الى الاراضي الاميركية ويسلمون أنفسهم لرجال السلطة الاميركية على أمل صدور العفو عن مخالفة اجتياز الحدود بصورة غير شرعية ومنحهم حق الاقامة و"العمل الاسود" (كما كان يحدث دائما في السابق).
ولكن في هذه المرحلة تغيرت الحال، وأصدرت ادارة ترامب أوامر مشددة بمنع التسلل عبر الحدود، وأعطى حرس الحدود صلاحية اطلاق النار وقتل المتسللين البائسين وتركهم على الارض يموتون نزفا. كما إن حرس الحدود يعتقلون العائلات ويطردون الآباء والامهات ويأخذون الاطفال الى داخل اميركا لامركتهم. وهذا ما أثار ضجة كبرى في صفوف منظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان والدفاع عن الطفولة داخل الولايات المتحدة ذاتها. وحاول دونالد ترامب تبرير ما يحدث بأن المتسللين يقذفون رجال حرس الحدود بالحجارة، ومن حق الحرس الرد على رماة الحجارة بالرصاص. وقد طلب ترامب من الكونغرس الموافقة على منح ادارته مبلغ 5.7 مليارات دولار لبناء جدار عازل عال على كامل الحدود الاميركية ـ المكسيكية. ولكن الاكثرية "الديمقراطية" رفضت منح ادارة ترامب هذا المبلغ الضخم، استنادا الى تردي الاوضاع المالية ـ الاقتصادية، وفشل ترامب في وقف ارتفاع سقف الدين العالمي الذي بلغ اكثر من 22 تريليون دولار، كما فشل في اعادة التوازن الى الميزانية الاميركية العاجزة، وهذا يعني عدم قدرة بنك "الفيديرال ريزرف" (الذي يقوم مقام البنك المركزي ويسيطر عليه اليهود) ان يطبع المزيد من الدولارات الورقية من دون تغطية ذهبية، بدون موافقة الكونغرس. وفي المقابل فإن المكسيك تعارض بشدة اقامة هذا الجدار لأن احتمالات التخفيض الحاد لتسلل اللاجئين غير الشرعيين الى الولايات المتحدة الاميركية يعني تسرب هؤلاء البؤساء الى داخل المكسيك بالذات، بكل ما يحمله ذلك من مخاطر الانفجارات الاجتماعية داخل المكسيك.
وحيال رفض "الديمقراطيين" منحه المبلغ المطلوب لبناء الجدار العازل، ومن أجل الضغط على الرأي العام السياسي، أقدم ترامب في 22 كانون الأول الماضي على اتخاذ أحد قراراته الارتجالية والصادمة، والمتمثل في الاغلاق الجزئي للمؤسسات الحكومية وإعطاء ملايين الموظفين اجازات مفتوحة غير مدفوعة الاجر. والمؤسسات التي أغلقت تهتم بالشؤون الحياتية اليومية والشؤون الصحية والاجتماعية للمواطنين. وكتبت Financial Times ان هذا الاغلاق بدأ يسبب الاضرار للاقتصاد الاميركي. وتقول احصاءات ان الاضرار المباشرة للاغلاق بلغت في اقل من شهر اكثر من ستة مليارات دولار، اما الاضرار غير المباشرة فهي اكبر من ذلك بكثير، ولكن الاستقصاءات بشأنها لم تكتمل بعد.
وقد تمت تسوية بين مجلسي النواب والشيوخ صدر بموجبها قرار موحد من الكونغرس بالموافقة على تقديم مبالغ صغيرة لادارة ترامب لتعزيز ظروف وتجهيزات الرقابة الحالية على الحدود.
ولكن هذا القرار لم يرض ادارة ترامب الذي هدد باعلان حالة الطوارئ التي تتيح له حصر السلطة في البيت الابيض وإنفاق المبالغ التي يريد بدون موافقة الكونغرس. ولا تزال الازمة مفتوحة على المجهول.
ويقول بعض المحللين إن أميركا تزداد عزلة دوليا، ليس فقط عن الاخصام والمنافسين، بل وعن الاصدقاء ايضا، وان الازمة المالية ـ الاقتصادية التي انتجت الحرب التجارية وأزمة الجدار على الحدود المكسيكية، هذه الازمة تزداد صعوبة وتعقيدا وتتخذ ابعادا اجتماعية وسياسية قد تتطور الى انفجارات اجتماعية تضع الولايات المتحدة الاميركية على حافة الحرب الاهلية وانفصال بعض الولايات الجنوبية عن الاتحاد، خصوصا تلك التي تقطنها غالبية من العنصر اللاتينو ـ اميركي، وهو ما يؤيده، بشكل سري او نصف سري، الفاتيكان وعدد من الدول الاوروبية.