أميركا تتسبب في تقهقر النمو الاقتصادي العالمي
جورج حداد
في نهاية عهد الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما، نشبت في أميركا حملة احتجاجات شعبية واسعة النطاق ضد الضائقة الاقتصادية وتدني مستوى المعيشة. ورفعت الحملة شعار "احتلوا وول ستريت"، اشارة الى شارع البنوك والبورصات في نيويورك، التي رأى المحتجون أنها السبب الرئيسي في الأزمة القائمة.
وفي نهاية 2016 حينما انتخب دونالد ترامب رئيساً، سارت ضده مظاهرات في كافة أرجاء أميركا، على خلفية اعتباره رئيساً سيئاً وسيزيد الأزمة سوءًا. ومثل هذه المظاهرات تحدث لأول مرة في أميركا.
لكن "البيزنسمان" دونالد ترامب لجأ الى "تكتيك" معروف هو الهروب الى الأمام والعمل لتصدير الأزمة الداخلية الأميركية الى الخارج. الا أنه فاجأ الجميع في تهوره وفظاظته ووقاحته. ورفع ترامب شعار "اميركا اولا"، معلناً العقوبات الاقتصادية والحرب التجارية والجمركية ضد روسيا والصين وايران وكوريا الشمالية، لكن هذه الحرب شملت بأضرارها الاقتصاد العالمي برمته، بما في ذلك الدول الصديقة تقليدياً لأميركا ككندا والمكسيك ودول الاتحاد الاوروبي. وفي الأمس القريب فقط، أعلن ترامب أنه سيدمر الاقتصاد التركي، مع أن تركيا هي عضو قديم في حلف الناتو وكانت تتبع كالظل السياسة الأميركية.
واذا كان من المشكوك فيه أن تستطيع السياسة الترامبية انقاذ أميركا من أزمتها الداخلية، فإنه من الثابت أن هذه السياسة انعكست سلباً على الاقتصاد العالمي بمجمله.
وقد أصدر البنك الدولي تقريراً جديداً عن توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي في سنة 2019. وجاء في التقرير أن النمو الاقتصادي العالمي لن يتجاوز 2.9% سنة 2019. وكانت التوقعات السابقة ترى أنه سيبلغ على الأقل 3% كما كتبت Financial Times. ويرى التقرير ان التباطؤ سيشمل أيضاً الاقتصادين الأكبر في العالم وهما الاميركي والصيني. ويعزو البنك الدولي الأسباب الرئيسية للتباطؤ الى الاضطراب في التجارة العالمية والتوتر في العلاقات التجارية العالمية. ويلاحظ التقرير وجود "عوامل متنامية لتباطؤ النمو الاقتصادي"، و"ان التجارة العالمية والفعالية الانتاجية فقدتا ثباتهما، والتوتر في العلاقات التجارية يبقى مرتفعا، وبعض الاسواق المتنامية لديها مشاكل جدية، ولا سيما في البورصات المالية".
ويتوقع التقرير أن ينخفض النمو الاقتصادي الأميركي من 2.9% كما كان متوقعاً الى 2.5% سنة 2019، وهي السنة الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية سنة 2020. أما النمو الاقتصادي الصيني فسينخفض الى 6.2% في حين كان المتوقع أن يكون النمو 6.5%.
ومع استنفاد تأثير الاصلاح الضرائبي للرئيس ترامب سنة 2021 فإن معدل النمو الاقتصادي الاميركي سينخفض بشكل حاد الى نسبة 1.6% أي تقريباً نصف ما هو متوقع للسنة الحالية. أما نسبة النمو الاقتصادي الصيني فستبلغ حينذاك فقط 6%. وهي على كل حال نسبة جيدة، بالمقارنة مع النسبة الاميركية، الا أنها أقل بكثير من نسبة الـ10% التي حافظت عليها الصين بالمتوسط في الحقبة من 1980 الى 2010.
وهذا يعني أنه رغم الأضرار الفادحة التي لحقت بها جراء الحرب التجارية الأميركية ضدها، فإن نسبة النمو الاقتصادي المنخفضة للصين ستبقى تزيد 3-4 أضعاف عن نسبة النمو الاقتصادي لأميركا. والنتيجة المنطقية لذلك أن الصين، اذا لم تحدث عوامل طارئة سلبية أو ايجابية، ستتقدم بثبات لتحتل في العقدين أو الثلاثة عقود القادمة المرتبة الأولى في العالم من حيث الحجم الاقتصادي العام لدولة واحدة وتخلي المركز الثاني الذي تشغله الأن لاميركا. وحينذاك سيصبح "الدلع" والعنجهية والتهور الاقتصادي الاميركي ترفاً مستحيلاً.
من جهة ثانية، تشير التوقعات الاحصائية الى أن نمو الناتج المحلي القائم في منطقة اليورو بأوروبا لن يزيد عن 1.6% سنة 2019، وهي نسبة أقل بـ0،3% من سنة 2018، أي أن الانكماش الاقتصادي العالمي يشمل أوروبا أيضاً.
كيف يمكن لهذا الوضع الدراماتيكي أن ينتهي؟
نحاول أن نجيب عن هذا التساؤل الجوهري:
1ـ منذ عهد باراك أوباما وأميركا تحشد قواتها العسكرية في بحر الصين وجنوبي شرق آسيا، تحسباً لمثل هذا اليوم. ولو أن أميركا تملك القوة العسكرية الكافية، فإن "التكملة المنطقية" للحرب التجارية ضد الصين، هي الحرب التدميرية الحامية. ولكن أميركا فقدت الى الأبد القدرة على شن مثل هذه الحرب الكبرى، لأن الصين دخلت في حلف استراتيجي عميق مع روسيا، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وفي حال شنت اميركا الحرب على الصين، فإن روسيا ستتدخل فوراً وستسحق أميركا ذاتها بلمح البصر، وتترك للصين أن "تتسلى" بالقوات الأميركية في جنوبي شرقي آسيا.
لا شك أن الجيش الأميركي هو، عددياً، أكبر حجماً وكثافة تسليحية وأوسع انتشاراً من الجيش الروسي. ولكن الجيش الروسي هو، نوعياً، أكثر تقدماً من الجيش الأميركي ويتفوق عليه بالأسلحة الجديدة الخارقة ويسبقه أكثر من نصف قرن. وفي هذا الجانب فهو أقوى جيش في العالم، وأقوى من جميع جيوش العالم منفردة ومجتمعة.
لقد فقدت أميركا القدرة على شن الحروب الكبرى والحرب العالمية الثالثة. وروسيا لا تريد شن مثل هذه الحروب، والقرار يعود لها. وهذا الواقع سيجد انعكاسه على الوضع الجيوستراتيجي الدولي بمجمله في العقود القادمة. ويكفي أن نذكر فقط الصاروخ الروسي العملاق الجديد "سارمات"، ووقوده سائل مكثف، ويطير باضعاف السرصوتية، يتألف من 6 طبقات، ويبلغ وزنه 200 طن ووزن رأسه الحربي 10 اطنان، ولا تستطيع التصدي له جميع أنظمة الدفاع الجوي الأميركية.
2ـ عقدت روسيا مع الصين اتفاقات لتزويدها بالنفط والغاز لمدة 40 عاماً قابلة للتجديد، بمبالغ تصل الى مئات مليارات الدولارات. وتقول المراجع المختصة إن روسيا قبضت من الصين 300 مليار دولار كدفعة أولى على الحساب، وإنها ـ أي روسيا ـ لن توظف هذه المبالغ الطائلة في الاقتصاد الصناعي والزراعي والخدماتي التقليدي، بل ستخصصها كلها للمجمع الصناعي الحربي ولصناعة الأسلحة الجديدة والمبتكرة حديثاً، لأن لديها طلبيات أسلحة من قبل الصين بمئات مليارات الدولارات أيضاً. وستقوم الصناعة الحربية بتلبية حاجات الجيش الروسي من الأسلحة المبتكرة حديثاً، إضافة الى تلبية الطلبيات العسكرية للصين التي تخطط لبناء أكبر وأضخم جيش في العالم والذي قد يبلغ تعداده عشرات ملايين الجنود والضباط. وفي الوقت نفسه سيجري رفع التبادل التجاري بين روسيا والصين بمئات مليارات الدولارات. وكل هذه المبالغ الخيالية بمئات وآلاف مليارات الدولارات لن يتم التعامل فيها بالدولار كوسيلة دفع، بل فقط كوحدة حسابية اسمية. وهذا يعني عملياً تقليصاً شديداً في مساحة استخدام الدولار الأميركي في الاقتصاد العالمي.
3ـ واذا درسنا بدقة أوضاع الدول الاوروبية، نجد أن السلوك الفوقي الأميركي الذي لا يأخذ بالاعتبار مصالح الأصدقاء والحلفاء أنفسهم (باستثناء الكيان الاسرائيلي) يدفع الدول الاوروبية للتهرب أكثر من أميركا والتقرب أكثر من روسيا والصين وايران وغيرها من الدول الاسيوية والافريقية، والاعتماد أكثر على اليورو والابتعاد أكثر عن الدولار.
4ـ كل ذلك سيؤدي الى سحب الوجود العسكري والنفوذ السياسي والدبلوماسي لاميركا من الخريطة الجيوستراتيجية العالمية، وطرد الدولار من شرايين الاقتصاد العالمي، وحصره وتكديسه داخل الأقبية العفنة للبنوك الأميركية، وبداية الانعكاسات السلبية للحرب التجارية الاميركية على أميركا بالذات، بحيث يصح فيها القول: "على نفسها جنت براقش".