اميركا و’الشرق الاوسط’ .. وحروب ’الإستنزاف على أساس هوياتي’
حسام مطر *
"الشرق الأوسط" هو الإقليم الأكثر فوضويةً في العالم، تسكنه الصراعات الأطول عمراً، تتنافس فيه بعنف كل القوى الدولية، تنتشر فيه أقوى المنظمات العسكرية، تتناثر داخله الدول الفاشلة والضعيفة، تتحرك على أرضه أشد القوى ظلاميةً (الكيان "الإسرائيلي" والتكفيريون)، تحكمه أوقح النخب التابعة للمركز الرأسمالي، تغلي فيه "الهويات القاتلة"، تهبط فيه مؤشرات التنمية البشرية الى أدنى مستوياتها، تغيب عنه أطر التعاون الإقليمي، وتتفجر عيون النفط فيه فلا تظمأ الحروب والمذابح.
اميركا، حرب استنزاف
كل هذا لا يجري في فراغ، بل إما كجزء من سياسات الإدارة الإمبريالية للمنطقة، وإما كناتج غير مباشر لهذه السياسات، وإما كناتج لتراكمات تاريخية لم تنجح قوى المنطقة بتجاوزها. المنطقة حالياً تدور في حلقة فارغة من العنف المتنامي، حالة ستدوم لسنوات مقبلة على أقل تقدير. الوقود البشري، الإقتصادي، والثقافي لهذا العنف متواجد بوفرة.
بعكس ما يبدو للوهلة الأولى، لا يقاتل "المتطرفون" لأجل السماء ولا حور العين فقط، هناك حافز دنيوي أساس هو السعي للمجد, للدور, للعظمة ولإثبات الذات بوجه الآخر. الالاف من الشباب العرب الملتحقين بحركات "التطرف" يكتمون مشاعر عارمة بالتهميش والذل والمهانة بفعل ثلاثي الإستبداد – الهيمنة – التطرف الديني. الأخطر أن هذه المشاعر لا تختص "بالذات" بل "بالهوية", أي أنهم يستشعرون أن هويتهم بكل ما تحويه من "مقدس وجليل" هي المهمشة والمهانة, ولذا حين يتمرد هؤلاء بهذا الشكل "المتوحش" فإنما يحرصون على إبراز هويتهم وخصوصياتها أولاً.
هكذا يمكن أن نفهم حركة الإستقطاب في "داعش"، هي تعدهم قبل الجنة والحور العين، تعدهم بإقامة "الخلافة"، التي يستدلون بها على رفعة هويتهم وعزة عقائدهم وفعالية وجودهم.
كل إنجاز ميداني سيرفع من هذه المشاعر ويشتد الإستقطاب، والعكس صحيح, ولذا يتجه تيار من الباحثين الى القول أن الأهم حالياً في مواجهة "داعش" هي القوة الصلبة وليس الناعمة، يجب كسر الهيبة أولاً. وفقاً لذلك تُدرك قيادة "داعش" خطورة الفشل العسكري في كوباني، لا سيما مع وفرة صور المقاتلات الكرديات. بكل الإحوال هذا الوقود البشري – الشبابي في العالم العربي سيغذي نار الحروب الإقليمية لسنوات مقبلة قبل أن ينفذ أو يبدأ بالبحث عن مسارات أكثر عقلانيةً.
من ناحية الإمبريالية الأميركية، فهي بحاجة الى عملية "إستنزاف مقنن" لمحور المقاومة من خلال الفوضى في المشرق العربي. في المدى المنظور, سيبقى الأميركي يدير المنطقة ضمن مبدأ "القيادة من الخلف" رغم محدودية أثره في إعادة الهيمنة الأميركية لما كانت عليه، ولذا يجري تعبئة الوقت بمعارك إشغال واستنزاف مذهبي بالوكالة, ثم يخرج الأميركيون – بايدن وبريجينسكي مثلاً - بوقاحة للقول: "إنها مسؤولية حلفائنا فقط".
عام 2011، قال وزير الحرب الأميركي روبرت غيتس: "أي وزير "دفاع" مقبل ينصح الرئيس بإرسال قوات برية الى آسيا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، يجب أن يخضع لفحص لقواه العقلية".
في ذروة الهيمنة، كانت أميركا تسعى لإستقرار المنطقة ضمن بنية هرمية تنظم العلاقات الإقليمية وفق منظورها، أما حين تتضعضع الهيمنة تسعى أميركا لمنع خصومها من إشغال الفراغ من خلال محاصرتهم بالتوازن الإقليمي.
الإشكالية هنا هي أيضاً في حلفاء واشنطن، أو نواطيرها بتعبير أدق. لم تجد هذه القوى في ظل تعذر إستخدام القوة الصلبة بشكل مباشر بوجه محور المقاومة إلا أن تعمل على إستدعاء مكونات الهويات الضيقة وإثارتها بدعاوى المظلومية وتسييلها عنفاً عبر تحوير المقدس، مما أشعل موجة حروب "هوياتية" في المنطقة، وهي أشد أنواع الحروب وأكثرها إستعصاءً على التسوية. لكن عملية "تشظي" الهوية أصبحت غير قابلة للضبط فإنقلب الصراع الى داخل المحور الإستراتيجي الواحد بين السعودية وتركيا أو الوهابية والإخوان مما زاد من تعقيدات المشهد.
في كل إقليم تجد حلفاء لواشنطن يتولون موازنة خصومها، اليابان وكوريا الجنوبية بوجه الصين، الإتحاد الأوروبي بوجه روسيا، إلاّ أن هذه الدول عقلانية تخضع للمحاسبة والضغوط الداخلية بما يضبط تبعيتها لواشنطن. أما في حالة الشرق الأوسط, حلفاء واشنطن يمتلكون موارد مالية هائلة بفعل النفط ومتحررون من الضغط الداخلي بفعل الإستبداد، ما يجعل تبعيتهم عمياء وقادرة على توظيف مئات المليارات وقدر غير محدود من العنف لخدمة واشنطن، بما يطرح تحدياً إضافياً بوجه محور المقاومة.
لم تُستنزف القوى الإقليمية في المنطقة بعد، كلها تعتقد أنها ما زالت قادرة على تحقيق مكسب ما، أو إلحاق هزيمة ما بوجه غريمها. لم تحن بعد اللحظة التي تصبح فيها المواجهة الإقليمية القائمة غير مجدية لطرفين على الأقل داخل المثلث الإيراني – السعودي – التركي. يبدو التركي بالتحديد الأكثر إندفاعاً والأبعد عن منطق التسوية لا سيما في سوريا. يبدو الإنهاك ضرورة لإعادة كثيرين نحو التعقل، لحينها على محور المقاومة بناء إستراتيجية مضادة لحروب "الإستنزاف على أساس هوياتي" والتحلي بالصبر الإستراتيجي وتعبئة كل موارد قوته، هنا بالتحديد يجب التأكيد على ضرورة صعود العراق في لعبة توازن القوى الإقليمي، بإعتباره الأقل إستفادةً من موارد قوته المعتبرة.