بايدن يزرع فتنة تقسيم العراق ويصفها بالضرورة الملحة
صباح أيوب
بين نقل الكلام الخطير لنائب الرئيس والتعتيم عليه، فضّل الإعلام الأميركي الخيار الثاني، فبدا كالمتواطئ مع "مموّلي النصرة والقاعدة في سوريا”… إلى أن جاء الروس وأنقذوا الحقيقة والخبر
"يبدو أن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، تكلّم ـ خلال محاضرة ما ـ كلاماً خطيراً عن تسليح وتمويل تركيا ودول الخليج الفارسی لداعش والنصرة في سوريا”، يأتي الخبر عاجلاً من أحد الزملاء يوم الجمعة الماضي. تصريح مفاجئ وخطير يحتاج إلى تدقيق في ما قيل حرفياً. تفتيش أوّل على "غوغل” عن آخر أخبار "محاضرة جو بايدن” يعطي كلمة واحدة: Bitch.تفتيش ثانٍ "معمّق” داخل الصحف وعلى المواقع الإخبارية، والعناوين البارزة تتمحور حول الكلمة نفسها: Bitch.
"سي إن إن” و إن بي سي نيوز” و”ذي واشنطن بوست” و”ذي هافنغتون بوست” و”بوليتيكو” وغيرها اتفقت على أن أهمّ ما قاله بايدن خلال محاضرته في جامعة "هارفرد” كان مزحة عن منصب "نائب الرئيس” تضمّنت كلمة Bitch. العبارة الساخرة كما قالها بايدن حرفياً كانت: "أليس ذلك عاهراً… أقصد… أن تكون نائب الرئيس”، ليكرر بعدها أنه "كان يمزح”.
انتهت المزحة هنا، والمقالات أيضاً. لا شيء عن "تمويل داعش والنصرة” ولا ذكر لتركيا ولا للدول الخليجية، بل إعلام محافظ وليبرالي وسائد يتوقف عند مزحة "جريئة”. موقع البيت الأبيض لا ينشر سوى نصّ كلمة بايدن، أي من دون ردّه على أسئلة الطلاب، وموقع جامعة "هارفرد” لا يقدّم ملخّصاً عن المحاضرة. جلّ ما قد تقع عليه حينها هو شريط على "يوتيوب” ينقل كامل ما جاء في المحاضرة بالصوت والصورة. وهنا المفاجأة: محاضرة بايدن استمرت لأكثر من ساعة ونصف ساعة! هل مازح نائب الرئيس طلّاب "هارفرد” طوال ساعة ونصف ساعة؟ ألم يقل شيئاً لهم غير bitch؟ هذا ما قاله "إعلامهم”.
ثم، يأتي الجواب من قناة "روسيا اليوم”: "بايدن يلوم حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على صعود داعش”. نائب الرئيس الأميركي قال الكثير على ما يبدو، وكلامه كان "خطيراً” بالفعل. أنقذت القناة الروسية الخبر يوم الجمعة الماضي، ونقلت بعضاً مما قاله نائب الرئيس في محاضرته، وهذا "البعض” لم يتضمن مزاحاً فقط، بل كلاماً واضحاً عن أن "حلفاءنا في المنطقة كانوا مشكلتنا الأكبر في سوريا”. تحايل الإعلام الأميركي مرة جديدة على القرّاء، ولم ينقل لهم من الحقيقة سوى ما يلهيهم عنها. "ماذا فعل السعوديون والإماراتيون؟ كانوا مصممين على إسقاط بشار الأسد وخلق حرب سنية ـ شيعية بالوكالة، فوزّعوا مئات ملايين الدولارات وآلاف الأطنان من السلاح على كل من أراد أن يقاتل ضد الأسد. لكن مَن كانوا يزوَّدون بالسلاح فعلياً هم جبهة النصرة والقاعدة وعناصر متطرفة من الجهاديين الآتين من باقي أنحاء العالم”، هذا ما قاله بايدن حرفياً في محاضرته. أما عن تركيا، فنقل بايدن عن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، اعترافه بأنهم "سمحوا بدخول عدد كبير” من المقاتلين عبر الحدود.
لم يشأ الإعلام الأميركي السائد أن ينقل ما قاله بايدن عن "حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط”، وهو أوّل مسؤول أميركي رفيع يقول مباشرة ما يحاول بعض السياسيين تسريبه إلى الإعلام منذ فترة. لا مجال للتأويل هنا، فذلك كلام صادر عن نائب باراك أوباما، بحق دول تقود حملات إعلامية ضخمة للحفاظ على صورتها لامعة بعيدة عن صبغة "الإرهاب”.
لكن الأزمة الدبلوماسية ـ السياسية التي نتجت من كلام بايدن، أجبرت الإعلام على نقل ما حصل بحرفيته. هنا أيضاً استمرّ البعض بلعبة الخداع، فرأوا أن كلام بايدن "زلّة كلامية من زلّاته الكثيرة والمعتادة” وحوّل البعض الآخر بوصلة الموضوع إلى جانب "انتخابي” داخلي بحت… لم يحتجّ أحد من كتّاب الإعلام السائد على اضطرار نائب رئيسهم إلى تقديم اعتذارين لدولتين غير ديموقراطيتين! قليلون جداً من لفتوا، منبّهين إلى أن بايدن "اعتذر لقوله الحقيقة”، ونادرون هم من أشاروا بالإصبع إلى فقدان الإعلام الأميركي السائد لأدنى مستويات المهنية!
عندما لا تنقل "سي إن إن” الخبر، فهذا يعني أنه لم يحدث، هكذا أقنع الإعلام الأميركي مشاهديه العرب الذين تعرّفوا إليه في التسعينيات، بشكله الحربي. وعندما تقول صحيفة كـ”ذي نيويورك تايمز” إن صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل يهدّد "العالم المتحضّر”، فهذا يجبر الجمهور العربي ذاته على تصديقها ويسمح لإعلام "العالم المتحضّر” إيّاه أن يبارك الغزو ويدعو إلى حروب جديدة وضربات عسكرية في المنطقة (العراق، ليبيا، سوريا…).