قمة هلسنكي: هلعٌ غربي من التحوُّل في القوة الدولية!
محمد علي جعفر
"أيها الأخوة الأمريكيون، نحن نعيش في مشكلة كبيرة ويجب علينا اتخاذ مواقف بحجمها اليوم. لقد مثَّلت قمة هلسنكي تحوُّلاً في تاريخ الولايات المتحدة". بهذه الكلمات عبَّر توماس فريدمان عن سخطه تجاه قمة هلسنكي وسلوك الرئيس الأمريكي أمس. فقد انتهت القمة لتُعيد ترتيب مسار الإشتباك الأمريكي - الروسي الذي لم يعد مبنياً على الأسس التي كانت تحكم العلاقة الأمريكية الروسية في السابق. القمة انتهت لتصنع تحوُّلاً في القوة الدولية للأطراف. أنهى بوتين بالأمس أحادية واشنطن مُتقناً إخراج القمة بكافة تفاصيلها لصالح روسيا، مُظهراً ضعف أمريكا ورئيسها تاركاً لترامب هامش مخالفته الرأي فقط. تكامل دور الرئيس الروسي مع موجة الإنتقادات الأمريكية الداخلية للرئيس ترامب قبل القمة وخلالها وبعدها. ليُصبح النقاش الغربي اليوم، عن التوجهات الجديدة للسياسة الدولية والتي لم تعد توجهاتٍ تُعبِّر عن الصراع التقليدي بين أمريكا وروسيا. نقَل بوتين بالأمس التوجهات نحو تحدياتٍ تتعلق بالإستقرار الدولي والإرهاب ومشاكل الإقتصاد العالمي. وبالتالي نجحت موسكو في بناء توجهات القمة، على أُسسٍ تنطلق من كون روسيا والحلف الذي تُمثِّله شركاء في إدارة السياسة الدولية.
الملفات السياسة كانت حاضرة. سوريا وأوكراينا والتفاهم النووي بين الغرب وإيران. لكن هذه الملفات طُرحت بالشكل الذي أرادته موسكو، مبنيةً على واقعٍ جديدٍ تشهده منطقة غرب آسيا، هو نتاجٌ للحرب في سوريا. هنا يبدو واضحاً أن موسكو مازالت تُجيد الحفاظ على مصالحها تحت سقف تحالفاتها، دون تخطي مصالح حلفائها، لا سيما إيران التي أرسلت مستشار آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي في الشؤون الدولية على أكبر ولايتي لموسكو قبل أيامٍ من القمة بهدف التنسيق والتعاون. نجح الرئيس الروسي في تجيير نتائج القمة لصالح روسيا وحلفائها، على بُعد أيامٍ من القمة التي ستجمعه بالرئيسين التركي والإيراني في طهران نهاية الشهر الحالي. كما كان واضحاً كلام بوتين حول أهمية التفاهم النووي واحترام إيران له ولشروط وكالة الطاقة الذرية. كذلك لم تأت القمة بأي جديدٍ فيما يخص الملفات السياسية الكبرى، بل عزَّزت توجهات موسكو وأبرزت تراجع قدرة واشنطن في إدارة الشأن الدولي. فصحيحٌ أن أمن الكيان الإسرائيلي ذُكر كبندٍ اتفق على أهميته الطرفان، لكنه لم يكن كما أرادته "تل أبيب" مشروطاً بتخفيض الحضور الإيراني في المنطقة.
سلوك الرئيس الأميركي ليس فقط خاطئ ومتناقض مع المصالح والقيم الأميركيّة بل يُعزِّز استنتاج أن يكون دونالد ترمب عميلاً للإستخبارات الروسيّة
من هنا يمكن معرفة الأسباب التي جعلت المراقبين الأمريكيين يُبدون انطباعاتهم السلبية تجاه القمة ونتائجها. "توماس فريدمان" والذي نشرت له "نيويورك تايمز" مقالاً منذ أيام يتحدث فيه عن الفارق في السياسة الدولية بين الصين وأمريكا، كتب مقالاً جديداً اليوم تحت عنوان "ترامب وبوتين في مواجهة أميركا". أصر في مقاله على أن سلوك الرئيس الأميركي ليس فقط خاطئ ومتناقض مع المصالح والقيم الأميركيّة، بل يُعزِّز استنتاج أن يكون دونالد ترمب عميلاً للإستخبارات الروسيّة أو أنه يستمتع بلعب دور العميل في وسائل الإعلام. هكذا بات الإعلام الأمريكي يُقدَّم رئيسه.
الدبلوماسي الأمريكي السابق "روبرت غاكن" وجد في نتائج القمة خطراً على الأمن القومي الأمريكي. برأيه فقد أضعف ترامب الموقف الأميركي من خلال ضرب تحالفات واشنطن وتدمير السياسة الخارجية الأمريكية.
هذه الآراء ليست بعيدة عن التحليلات الموضوعية. فالقمة انتهت بإتفاق الطرفين على أن الحرب الباردة التي كانت بين واشنطن وموسكو انتهت وتغيّر الوضع في العالم بشكلٍ جذري. وهو ما يعني التأسيس لمرحلةٍ جديدة لن تعترف فيها أمريكا بوجود شراكة دولية فحسب، بل يجب عليها أن تبحث عن كيفية نسج هذه الشراكة. وهو ما لم تعتد عليه واشنطن. وهو نفسه ما يُمثِّل خطراً على الأمن القومي الأمريكي الذي لم يُبنى يوماً إلا على أحادية القطب. وبالتالي طرحت قمة هلسنكي تساؤلاتٍ جديدة غير تقليدية، لن يُجيب عليها سوى المستقبل. فعلى أي أساسٍ سيتم إعادة ترتيب قواعد الإشتباك الأمريكية الروسية؟ إذا سلَّمنا جدلاً بأن غرب وشرق آسيا لم يعودا في الحسابات الأمريكية كالسابق، فإن النتيجة ستكون أوروبا. فهل بدأ زمن أوروبا الضحيَّة في السياسة الدوليَّة؟!