ترامب بين ’أضواء’ كيسنجر و’ظلال’ بريجنسكي
إيهاب شوقي*
يخطئ من يتصور أن ترامب يتحرك بلا خطط استراتيجية وبلا عقيدة سياسية، ويخطئ أكثر من يتصور أن خطواته الحمقاء تعكس شخصية حمقاء متهورة تتصرف بعشوائية.
قد يكون واجهة لمؤسسات كبرى ولكن ليس من نوعية الواجهات التي تتناولها الأعمال الدرامية والتي يبدو بها البطل مجهول في الخلفية والمتصدر للصورة شخص أبله.
وكونه واجهة هنا تعني أنه يمثل هذه المؤسسات ويمثل فكرها ولا تعني أنه مجرد شخص من نوعية الكومبارس في الدراما.
والمتأمل لسياسات ترامب يلمح تحركات قد تبدو رعناء وقد تبدو متناقضة، ولكن مع التعمق والتحليل والبحث في أصول التنظير الاستراتيجي الأمريكي، تبدو في سياق مترابط، ولها ما يفسرها أمريكيا.
ولعل من ابرز العقول الاستراتيجية الامريكية وربما العالمية، نجد قطبين كبيرين، لا يمنع الخلاف معهما ورفضهما بل والعداء معهما، من الاعتراف بالكفاءة والعبقرية الاستراتيجية لهما، وهما هنري كيسنجر، وزبغنيو بريجنسكي.
وبرغم أن الراصدين والمحللين غالبا ما يذهبون الى انهما قطبين متنافرين او متعارضين، الا ان السياسات الامريكية ومنذ السبعينيات تكاد تتراوح بين أفكارهما ولا تخلو ممارسة من ظلالهما.
وقبل رصد الأضواء والظلال لكل من الداهيتين الامريكيين في سياسة ترامب، يجب ان نوضح أن المطروح علينا كأمة، هو محاولة الفهم، للتمكن من اعداد المواجهة اللائقة بطبيعة الاستهداف، وهذا يتطلب جهدا في محاولة قراءة الاحداث وتوقع الخطوات اللاحقة، دون التباسات ناتجة عن مشاهد متناقضة.
وهنا يمكننا رصد ثلاثة حوادث وملابساتها ثم العودة لكيسنجر وبريجينسكي.
1ـ التخلي الامريكي البادي على السطح عن الارهاب في الجنوب السوري، والذي تمثل في الصمت الامريكي عن بطولات الجيش السوري والمقاومة في تحرير درعا والجنوب، وصراخ قادة الفصائل الارهابية وشكاواهم من امريكا.
فهذا الحدث، يمكن ان يفسر على انه اقرار بالهزيمة الامريكية والعجز عن التدخل، كما يحلو للبعض أن يفسره على انه صفقة ما او مقايضة مع الروس، أو يفسر بشكل مختلف وربما يكون غريبا أو صادما، مثلما جاء على لسان صحافي كبير وشهير ومن اصدقاء سوريا وهو تييري ميسان، والذي قال نصا:
(لقد وضع الرئيس ترامب نُصب عينيه هدفًا محددا، هو تدمير الرأسمالية المالية للنخب العابرة للقوميات في دافوس، واسترجاع الرأسمالية الإنتاجية "للحلم الأمريكي". وهذا ما قاده، بطبيعة الحال، إلى التشكيك في الأيديولوجيا الإمبريالية للقوات المسلحة الأمريكية.)، وارجع ميسان الصمت الامريكي في درعا الى ان اوامر ترامب بدأت تنفذ، بعد ان كانت مساعدة الارهابيين نتيجة عدم طاعة قادة الجيش له!
لماذا لا نقول، ان ترامب بدأ في تنفيذ خطة جديدة مفادها التقارب مع الروس في ظل حربه التجارية الكبرى مع الصين، وانه حاول فك الارتباط الصيني الروسي وقطع الطريق على تعميقه؟
ولماذا لا نقول ان ترامب يحاول التسوية مع الروس قبل حدوث تقارب روسي اوربي قد يطرد النفوذ الامريكي من اوراسيا وهي لب الصراع العالمي؟
الاجابة قد تأتي في سياق الحديث عن كيسنجر وبريجينسكي بعد استعراض باقي الحوادث.
2ـ تصدي الدفاعات الجوية السورية لهجوم إسرائيلي استهدف مطار التيفور العسكري بريف حمص واسقاطها لعدد من الصواريخ وأصابة إحدى الطائرات المهاجمة وارغام البقية على مغادرة الأجواء.
فكيف يفسر هذا الهجوم الصهيوني؟
هل يفسر انه انتقام عاجز بعد بطولات الجيش السوري والمقاومة؟ أم يفسر كخادم لتفاوض نتنياهو مع بوتن اثناء زيارة نتنياهو المرتقبة لموسكو في 11 حزيران/ يونيو الجاري؟
ام خادم لتفاوض ترامب مع بوتن في لقائهما المزمع في هلسنكي في 16 تموز/ يوليو الجاري؟
ام انه لافساد التفاهمات الروسة الامريكية والتي قد لا تأتي على هوى الكيان الاسرائيلي؟
3ـ الحدث الثالث هو ازمة الحكومة البريطانية واستقالة وزير الخارجية بوريس جونسون وكذلك ديفيد ديفيس، الوزير البريطاني المكلف بملف انسحاب البلاد المرتقب من الاتحاد الأوروبي، إثر خلاف مع حكومة ماي حول شروط "بركسيت"، وذلك بعد 3 أيام من إعلان ماي عن التوصل إلى اتفاق مع الوزراء السياديين حول استراتيجية "بركسيت".
وهنا انحازت ماي لتقارب مع الاتحاد الأوربي مقابل الخروج الخشن الذي تبناه الوزيران المستقيلان، وهو يعكس ربما خلاف ما مع الامريكان المنحازين لانفصال بريطاني عن اوربا والطامحين ايضا لخروج فرنسي.
هل هذا يعطي وجاهة لتقارب امريكي روسي خشية تقارب اوربي باتحاد متماسك مع الروس؟
هنا وبعد الاحداث والتساؤلات يمكننا ان نعود لكيسنجر وبريجنسكي:
بريجينسكي قام بتخيير القادة الأمريكيين بين الهيمنة والقيادة، وراي ان الهيمنة ستشكل احلاف مضادة للامريكان.
وفي كتابه أمريكا بين العصرين الصادر عام 1970 تنبأ بريجينسكي بانهيار الاتحاد السوفياتي خلال العقد 1980/1990 من القرن الماضي،كما قال في الكتاب نفسه أن أمريكا ستنهار كقطب عالمي أحادي بعد الانهيار السوفياتي بعقدين أو ثلاثة..
وفي كتاب رقعة الشطرنج، يرسم بريجنسكي خططا مهمة لصانع القرار السياسي الأمريكي يقوم بطرحها من خلال تحديد أهمية وعي المقرر الأمريكي بأمرين :
- خطورة تحالف بين الصين وروسيا وربما إيران وإن كان تحالفاً مضاداً للهيمنة الأمريكية لا توحده أيديولوجيا بل التذمر المشترك .
- التحدي الآخر وقد يكون أضيق جغرافيا ، لكنه أكثر فاعلية وهو قيام محور صيني ياباني غداة انهيار المواقع الأمريكية في الشرق الأقصى وحصول تطور انقلابي في موقف الصين العالمي فقط ثم ذكر احتمال آخر بعيداً ولكنه لا يستبعد وهو : إمكانية حدوث اصطفاف أوروبي يشتمل على تواطؤ ألماني روسي أو حلف فرنسي روسي .
أما هنري كيسنجر فانه وفي يوم 4 شباط/ فبراير عام 1972 التقى الرئيس نيكسون ، وكان كيسنجر مستشاره آنذاك لشؤون الأمن القومي، بغية بحث زيارة نيكسون المرتقبة إلى الصين.
وقال كيسنجر للرئيس نيكسون خلال هذا اللقاء إن "الصينيين خطيرون مثل الروس على حد سواء، وحتى أنهم في المنظور التاريخي أكثر خطورة من الروس"، وأضاف مخاطبا الرئيس نيكسون أنه بعد 20 سنة فإن "الرئيس الأمريكي القادم، إذا كان حكيما مثلكم، سيعتمد على الروس في سياسته ضد الصينيين".
وكان كيسنجر اقترح على نيكسون استخدام "لعبة توازن القوى" واستغلال التناقضات القائمة بين موسكو وبكين في ذلك الزمان.
تناقضات ترامب ليست تناقضات وانما سياسات تعكس استراتيجيات تبدو متناقضة ولكنها غير ذلك، هي أضواء لكيسنجر وظلال لبريجينسكي، وكلها في فلك امريكي استعماري واحد تذوب فيه المتناقضات.