صفقة القرن والانتفاضة
منير شفيق
زيارة نتنياهو غير المتوقعة إلى الأردن، وإعلانه التمسك بالوضع القائم للأماكن المقدسة، ويقصد الوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، تشكل علامة واضحة على ضعف الكيان الصهيوني وحكومته، وذلك بالرغم من الدعم الأمريكي غير المحدود من قِبَل دونالد ترامب .
وقد أعلن جاريد كوشنر في أثناء احتفاله بفتح السفارة الأمريكية في القدس، أن للحكومة الصهيونية كامل السيادة على القدس، واستخدم عبارة: "الوصاية الكاملة على كل القدس". الأمر الذي استهدف "الوصاية الأردنية" مباشرة، حين أكد موضوع وصاية الكيان الصهيوني على القدس بكاملها.
طبعا صفق له نتنياهو في حينها بحرارة. ولكن عندما أُعيدَت الحسابات المتعلقة بموازين القوى والمعادلة السياسية، ولا سيما مع الجولة الرسمية التي قررها دونالد ترامب لمبعوثيه جاريد كوشنر وجيسون غرينبلات إلى كل من مصر والسعودية والكيان الصهيوني، وبتجاهل لافت للأردن، سارع نتنياهو إلى زيارة الأردن وتأكيد تمسكه بالوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية.
ففي الأقل يجب أن يُفهَم من خطاب كوشنر في افتتاح السفارة، ومن زيارته وغرينبلات إلى المنطقة، ثم من مسارعة نتنياهو لاسترضاء الأردن في موضوع الوصاية، أن الإدارة الأمريكية التي أطلقت مشروع صفقة القرن تتحرك بلا استراتيجية متماسكة، وتتخذ مواقف غير متناسقة حتى مع حكومة نتنياهو.
إن ما حدث في موضوع الوصاية يضع كوشنر ومن ورائه ترامب في موقع المزايدة على نتنياهو من جهة، وفي موقع التخبط من جهة أخرى. فكل ما صرح به ترامب ونفذه كوشنر وغرينبلات جاء بمنزلة عقبات في طريق تنفيذ مشروع صفقة القرن، والدليل أن ما من أحد يجرؤ على إعلان تأييده مثلا لإعلان القدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، أو لفتح السفارة الأمريكية في القدس، أو لإعلان الوصاية الصهيونية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية. وهذا ينطبق حتى على السعودية بقيادة محمد بن سلمان الذي يؤكد الكثيرون أنه يعمل في الخفاء لتمرير ما يسمى بصفقة القرن، ولا يتوانى عن الضغط على الفلسطينيين (السلطة)، وعلى الأردن للقبول بكل ما يطرحه، أو سيطرحه، ترامب عليهم، مهما يكن. علما أن ترامب لم يتقدم حتى الآن بإعلان مشروع صفقة القرن بما سيتضمنه من بنود. فالسعودية في مواقفها المعلنة كافة: ابتداء من القمة العربية في الظهران، ومرورا بالجامعة العربية، ومؤتمر التعاون الإسلامي، وانتهاء بهيئة الأمم المتحدة، لم تملك إلا أن توافق على كل القرارات المعارِضة لما اتخذته الإدارة الأمريكية من خطوات عملية تتعلق بالقدس والأماكن المقدسة، ونقل السفارة. وبهذا تذهب القرارات إلى عكس ما يُراد. وهو من أسوأ ما تبتلي به سياسة.
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف ستنفذ صفقة القرن، أو كيف سيُعلن عن ماهيتها وعن التأييد لها؟
البعض يعتبر أن صفقة القرن هي ما يجري على الأرض ويصبح أمرا واقعا. ولكن هذا شيء آخر غير الموافقة على صفقة يُفترَض بها أن تحقق حلا معلنا للقضية الفلسطينية، وينبثق عنه تحالف أمريكي- إسرائيلي- عربي ضد إيران؛ لأن ما يجري على الأرض يتقرر مصيره من خلال الصراع، وما ينجم عنه من نتائج. ومن يتابع ما يجري على الأرض، يجد أن اتفاق أوسلو سقط وفشل، وأن مشروع التسوية عبر المفاوضات الذي تبناه محمود عباس، سقط أرضا، ولم يعد مطروحا على الأجندة. ويجد، أيضا، أن الإعلان الأمريكي الخاص باعتبار القدس عاصمة الكيان الصهيوني، واجه عزلة دولية وإقليمية وعربية وإسلامية وفلسطينية وأردنية.
بل كان من حوافز انطلاق انتفاضة المسيرة الكبرى في قطاع غزة، كما انتقال الوضع في القدس والضفة الغربية، وحتى حيفا، إلى حالة من التفجر والتهيؤ لانتفاضة شعبية شاملة، سوف تقلب الطاولة، إن حدثت، وهي في طريق الحدوث إن شاء الله، على رؤوس ترامب وكوشنر وغرينبلات ونتنياهو وعلى "صفقة القرن" ومن يتعاطف معها سرا، ولا يجرؤ أن يحوّلها موقفا رسميا لدولته.
فما يجري على الأرض لا يقتصر على ما تعلنه أمريكا أو تفعله، فهنالك ما تواجهه من عزلة ومعارضة ومقاومة، وهو أيضا يجري على الأرض.
على أن المشكل الحقيقي، في النهاية، الذي يشكل خطرا حقيقيا على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، هو استمرار الاحتلال واستشراء الاستيطان والتهويد في القدس والضفة الغربية. وهذان البعدان هما ما يجب أن تصب الجهود الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية لمواجهتهما. فإن هدف دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، عن ومن القدس والضفة الغربية، وبلا قيدٍ أو شرط، هما الهدفان اللذان يجب أن يركز عليهما، وأن تتشكل أوسع وحدة وطنية فلسطينية، شبيهة بالوحدة الفلسطينية التي عبرت عنها الهيئة العليا لمسيرة العودة الكبرى في قطاع غزة.
وهذان الهدفان قابلان للتحقيق، إذا ما تشكلت هيئة عليا لوحدة وطنية واسعة، تطلق انتفاضة شعبية سلمية ومقاومة. وقد صممت على جعل كلفة الاستمرار في الاحتلال، والمضي في الاستيطان، أعلى كثيرا من كلفة الانسحاب بلا قيد او شرط، كما حدث مع الاحتلال في قطاع غزة، وكما حدث مع كل احتلال في العالم، وهو ما حدث مع احتلال جنوب لبنان عام 2000.
صحيح أن اندحار الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة الغربية سيكون صعبا جدا على الكيان الصهيوني. ولكنه قابل للتحقيق في ظل موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية. فمن جهة أمريكا، لقد أصبحت في أضعف حالتها في ظل قيادتها الخرقاء الراهنة، والتناقضات بين أمريكا وروسيا، كما بين أمريكا والصين، محتدمة، والعلاقات الأمريكية مع حلفائها الأوروبيين والكنديين واليابانيين في أدنى مستوياتها. وأما على المستوى العربي فدول الهرولة والتراجعات في أشد حالاتها ضعفا وهزالا. فيما أصبح الوضع التركي والإيراني أكثر مواتاة ضد العدو الصهيوني، كما أن قوى المقاومة والممانعة في حالة نهوض وتقدم.
ثم هنالك عاملان يجب أن يؤخذا بقوة، بعين الاعتبار، يتمثلان: أولا بوضع العدو وجيشه بنيويا، وقادة، وهو باتجاه التخبط والفشل: الفشل في أربع حروب: 2006 و2008/2009 و2012 و2014، وفشل في مواجهة مسيرة العودة، والفشل في التصعيد العسكري الأخير في قطاع غزة. وثانيا التحوّلات الكبرى التي أخذت تتزايد في مواقف الرأي العام العالمي ضد الكيان الصهيوني وسياساته وارتكاباته، الأمر الذي سيؤثر في الجاليات اليهودية في أمريكا وأوروبا سلبيا. مما سيدفعها للضغط على حكومة نتنياهو للتراجع أمام انتفاضة الشعب الفلسطيني وهدفيها العادلين في نظر العالم كله الذي يعتبر الاحتلال غير شرعي والاستيطان جريمة حرب.
إن اندلاع انتفاضة شعبية شاملة وسلمية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، ولأشهُر وبتصميم لا يلين، أمر لا تحتمله الأوضاع الدولية والعربية والرأي العام العالمي.
من هنا يتوجب أن تتشكل قناعة فلسطينية أولا بإمكان تحقيق هدفَي دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة الغربية، وبلا قيد او شرط، وبلا أية إضافة مثل طرح موضوع الدولة الفلسطينية؛ لأن موضوع الدولة يعني الدخول في حل للقضية الفلسطينية وسيفرض عليها تعيين حدودها، وستتطلب حشد الاعترافات بها، وإلى ما هنالك من إشكالات، فيما حصر الموضوع بهدفَي دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات لا يتطلب إقناع أحد بعدالتهما، ولا يسمح أن يطلب شيء في المقابل، فالاحتلال لا يجوز أن يُكافأ، ولا الاستيطان أن يُكافأ. طبعا هذان الهدفان يتبعهما فورا: إطلاق كل الأسرى وفك حصار القطاع.
وبكلمة، إن الكرة بملعب فصائل المقاومة، كما بملعب السلطة للتخلي عن التنسيق الأمني الذي يحمي الاحتلال والاستيطان. وهنا لا بد من صحوة فتحاوية لتكتمل وحدة الصف الفلسطيني