أميركا تعلق في فخ كوريا الشمالية
جورج حداد
لدى قيام نظام صدام حسين السابق باجتياح الكويت في 1991، شرب الرئيس الاميركي جورج بوش الاب حليب السباع وأعلن انشاء النظام العالمي الجديد، الذي يقوم على محور القطب الاميركي الاوحد. ومنذ ذلك الحين اخذت اميركا تنهى وتأمر وكأنها السيد المطاع في العالم. وطوال السنوات الماضية عادت اجواء "الحرب الباردة" والمؤامرات والانقلابات والحروب الاهلية والاقليمية كما كانت عليه قبل انهيار المنظومة السوفياتية وأسوأ.
وبالرغم من غياب العامل الايديولوجي المتمثل في "معاداة الشيوعية"، فإن تطويق وخنق واخيرا السيطرة على روسيا اولا، والصين ثانيا، كان – ولا يزال ـ هو الهدف الاكبر للجيواستراتيجية العالمية لاميركا.
ونظرا لان اميركا تدرك ان مصدر قوة روسيا هو قوتها العسكرية وقدرتها على ضرب اميركا نوويا، من البر والبحر والجو والفضاء الكوني، فإنها ركزت في هجومها الاستراتيجي ضد روسيا على الجانب الاقتصادي والمالي، المتمثل في الحصار والمقاطعة والعقوبات الاقتصادية والمالية، لاخضاع روسيا عن طريق اضعاف الاقتصاد الروسي.
ونظرا لانها ـ اي اميركا ـ كانت تدرك ان مصدر القوة الاول للصين هو في اقتصادها الضخم الذي يسير بسرعة الى التفوق على اميركا ذاتها والتحول الى اضخم اقتصاد عالمي في السنوات القليلة القادمة، فإن اميركا ركزت هجومها الاستراتيجي ضد الصين على الجانب العسكري، وسحبت غالبية جيوشها من جميع انحاء العالم وحشدتها حول الصين في البلدان الموالية لها (اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية) وجمعت في البحار المحيطة بالصين اكبر حشد عسكري بحري عرفه التاريخ من سفن حربية وقوات انزال وغواصات نووية وحاملات طائرات، ووضعت الخطط الجاهزة لضرب الصين نوويا واحتلالها واخضاعها، واجبارها على عدم الخروج عن الارادة الاميركية. وفي السنتين او الثلاث سنوات الاخيرة اجرت اميركا مع اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية اضخم المناورات العسكرية الشاملة، بحجة الخطر الكوري الشمالي. والواقع ان هذه المناورات كلها كانت تجري لتهديد الصين بالذات.
اميركا تدرك ان مصدر القوة الاول للصين هو في اقتصادها
وكانت الادارة الاميركية بأسرها (من البيت الابيض والبنتاغون والمخابرات الاميركية الى آلة البروباغندا الاميركية اليهودية العالمية) تمارس العهر السياسي والكذب الرسمي على الشعب الاميركي ذاته ناهيك عن الشعوب الاوروبية وبقية شعوب العالم بأن هذه المناورات هي موجهة ضد خطر كوريا الشمالية.
كيف واجهت واحتوت روسيا حرب العقوبات الاقتصادية والمالية ضدها؛ وكيف واجهت واحتوت الصين الشعبية الحرب السيكولوجية ـ العسكرية ضدها.. تلكم مسألة ينبغي التوقف عندها بشكل خاص.
ولكن، وبمعزل عن ذلك، فإن روسيا والصين دفعتا اميركا لان تتجرع كأس السم التي حضرتها للعالم، وتصدق هي نفسها كذبتها عن كوريا الشمالية بتحويل الكذبة الى واقع فعلي.
كيف؟
ـ1ـ تظاهرت روسيا والصين بأنهما تصدقان فعلا ان كوريا الشمالية تعمل (وقادرة لوحدها!) على امتلاك القنبلة النووية والصواريخ الباليستية التي تهدد بها اميركا وحلفاءها. وشاركتا في التصويت ضد كوريا الشمالية في مجلس الامن، طبعا مع الحديث عن انهما تدعوان الى ايجاد مخرج دبلوماسي للازمة. وهذا الموقف دفع اميركا الى تصديق كذبتها ذاتها بذاتها.
ـ2ـ ان روسيا والصين كانتا حليفتين لكوريا الشمالية في الحرب الكورية (سنة 1950 ـ 1953). وهذه الحرب لم تنته حتى الان ولم توقع كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية معاهدة صلح الى الان. وليس هناك ما يدفع روسيا والصين لتغيير موقعهما وموقفهما من هذه الحرب بل على العكس.
ـ3ـ ما دام ان اميركا اطلقت كذبة الخطر النووي ـ الصاروخي الكوري الشمالي، فلماذا لا تنتهز روسيا والصين الفرصة وتحولان هذه الكذبة الى واقع؟
ـ4ـ ان هملقار برقة أوصى ابنه هنيبعل برقة قائلا: "ادرس ميدان القتال جيدا. ودع الارض تقاتل عنك". ولدى استرجاع روسيا لشبه جزيرة القرم كشف الروس عن وجود تجويف تحت الارض وفي اتصال مع البحر على ساحل يالطا يتألف من ثلاث طبقات تتسع كل طبقة لغواصة ترقد في كل طبقة لاجل التصليحات الضرورية والتزود بالماء والمؤن والذخيرة والاسلحة وتغيير طواقم البحارة. وفي هذا الصدد فإن شبكة مترو الانفاق في العاصمة الكورية الشمالية بيونغ يانغ هي محفورة على عمق مائة متر، لتستخدم كشبكة مترو في زمن السلم وكملجأ ضد القنابل النووية في زمن الحرب. وتقول الدراسات الجيولوجية ان 80% من الارض الكورية الشمالية هي كناية عن سلاسل جبال متوسطة الارتفاع تتخللها سهول ضيقة. فماذا يمنع روسيا والصين وكوريا الشمالية من التعاون سرا، علميا وتكنولوجيا وماليا واقتصاديا وسياسيا، لتحويل الاراضي والسواحل الكورية الشمالية الى مدن انفاق تتكدس فيها المؤن والذخائر والاسلحة الكلاسيكية المتطورة والصواريخ من مختلف الاحجام والابعاد والقنابل النووية وغير النووية والغواصات الشبحية، وتتكدس الجيوش؟
ـ5ـ لقد ارتكبت اميركا خطأ فظيعا باختراع كذبة خطر كوريا الشمالية. وادركت بعد فوات الاوان ان الكذبة تحولت الى واقع. وبعد ان كانت وسائل الاعلام الاميركية التافهة تكيل الشتائم لنظام بيونغ يانغ، اخذت الان تلاطفه بطريقة "ذكية" وتتحدث عن وزن كيم تشين اون وهل زاد او نقص عن 130 كلغ، وما هو الريجيم الذي يتبعه، وهل يلعب البنغ بونغ او الشطرنج، وما نوع وثمن حقيبة يد امرأته ولون فستانها، وما هو لون حذاء شقيقته (التي هي سكرتيرته ومستشارته في الوقت نفسه).
ـ6ـ وصار الشغل الشاغل للعلماء وخبراء المخابرات الاميركية ان يحزروا كم صاروخا وكم قنبلة نووية صار يوجد في كوريا الشمالية واذا كانت قد اصبحت قادرة على تركيب القنابل على الصواريخ.
ولم يبق احد يتذكر روسيا والصين بالحرب الباردة وصار كل هم اميركا محصورا ضد كوريا الشمالية. بل ان الرئيس ترامب عبر عن "اسفه" بأنه لا يوجد تقارب بين اميركا وروسيا في الموقف من كوريا الشمالية.