تقسيم دول المنطقة خطير تقسيم مجتمعاتها أخطر...
د. عصام نعمان
ثمّة إجماع أو شبه إجماع على أنّ العديد من دول منطقة غرب آسيا يتعرّض لمخططات تقسيم وتحجيم. يقولون إنّ ما جرى ويجري ويُخطط له كي يجري في قابل الأيام في العراق وسورية واليمن وليبيا، ومن ثم في تركيا والسعودية وإيران شواهد وقرائن على مخططات قيد التنفيذ. يختلف القائلون والمتقوّلون في تحديد هوية المخطِّط والمنفّذ. بعضهم يتهم الولايات المتحدة و«إسرائيل». بعضهم الآخر يتهم تركيا وإيران مع أنهما مرشحتان أيضاً لمخططات تقسيم وتحجيم. الاتهام بات، على ما يبدو، إحدى وسائل الصراع والمخاتلة والتمويه .
أياً كان القائل والمقول، فإنّ ثمة حقيقة ساطعة هي أنّ ثلاثة صراعات محتدمة تدور حالياً في المشرق العربي وفي محيطه: صراع متعدّد الأطراف ضدّ «داعش»، هو الأكثر احتداماً في العراق وسورية صراع الكرد، أو جلّهم، من أجل دولة مستقلة عن العراق تتشوّف إلى ضمّ أكراد سورية وتركيا وإيران وصراع الفلسطينيين ضدّ «إسرائيل» من أجل التحرير والعودة وبناء دولتهم المستقلة.
تركيا وإيران، ناهيك بحكومة بغداد المركزية، تقاوم بضراوة متصاعدة مساعي سلطة مسعود البرزاني في كردستان العراق للتسلّل من باب الاستفتاء الذي أجرته أخيراً بغية إقامة دولة أمر واقع في شمال العراق تتجاوز مساحتها
المحافظات الثلاث التي يتشكّل منها حاليّاً إقليم الحكم الذاتي الكردي الى مناطق أخرى متنازع عليها في محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى.
حكومتا العراق وإيران اتّخذتا تدابير مؤذية لسلطة البرزاني، لكن ليس من شأنها إكراهه على التراجع عن أغراضه. تركيا قادرة أكثر من غيرها على إيذائه. كيف؟ بقطع خط أنابيب النفط الممتدّ من كركوك وغيرها عبر أراضيها الى شواطئ البحر المتوسط، ما يؤدّي تالياً إلى قطع صادرات النفط «الكردي» إلى أسواق العالم. هل تفعل تركيا؟ هل تضحّي بمصالحها النفطية وغير النفطية في كردستان العراق، ولا سيما اذا ما طال أمد الصراع؟ ثم، كيف ستتصرّف الولايات المتحدة؟ هل يعقل أن تصطدم مباشرةً بحكومات العراق وتركيا وإيران في آن من أجل دعم مشروع البرزاني غير الناضج والمحفوف بالمخاطر؟
لعلّ رهان البرزاني الأول هو على دور أميركا في دعم قوات سورية الديمقراطية «قسد». ذلك أنّ دعم هذه القوات سيؤدّي إلى حمل سورية، وبالتالي العراق، الى الانشغال عن مواجهة مشروع البرزاني الانفصالي بمواجهة قوات «قسد» للحؤول دون سيطرتها على منابع النفط في محافظة دير الزور التي تشكّل نحو 40 في المئة من مجمل الاحتياط النفطي السوري. هكذا يتضح أنّ دور «داعش» لم ينتهِ بعد بالنسبة للولايات المتحدة. ولعلّ هجمته الأخيرة وتمكّنه من قطع أوتوستراد تدمر دير الزور والسيطرة على بعض نقاطه قبل أن ينجح الجيش السوري في ردّه على أعقابه دليل واضح على استمرار قيامه بدورٍ مشبوه معادٍ لسورية والعراق معاً.
إذا كان دور الولايات المتحدة ملتبساً بالنسبة إلى مواجهة مشروع البرزاني في العراق ومشروع «داعش» الذي خسر معظم مكاسبه الجغرافية في سورية والعراق وانكفأ إلى مناطق استراتيجية على الحدود السورية العراقية، فإنّ دور واشنطن يبدو أكثر التباساً في ما يخصّ المساعي التي تبذلها مصر لتحقيق مصالحة وطنية بين حركتيْ «حماس» و«فتح». فهل ما تقوم به القاهرة هو نتيجة تفاهم بينها وبين واشنطن؟ ثم، ما هي الأهداف القريبة والبعيدة من وراء تحقيق المصالحة الفلسطينية؟ هل غايتها الرئيسة إنقاذ قطاع غزة بعد اشتداد وطأة الحصار عليه وقيام حكومة السلطة الفلسطينية بقطع الاعتمادات المالية المخصصة لتوليد ما يحتاجه من طاقةٍ كهربائيّة، فضلاً عن قطعها رواتب الموظفين؟ أم أنّ غاية المصالحة تمكين مصر من إدارة شؤون غزة على نحوٍ يؤدّي إلى لجم فصائل المقاومة الناشطة ضدّ «إسرائيل»؟ وفي هذه الحالة، هل تتقدّم إدارة ترامب بمشروع تسوية جديد للقضية الفلسطينية، بعد المصالحة، يكون أكثر قابلية للتسويق لدى الجمهور الفلسطيني؟
من الواضح أنّ الوضع معقد حاليّاً في ساحات الصراع كلّها ويحتمل الكثير من التقلبات. غير أنّ أمراً واحداً يبدو واضحاً في هذه الآونة. إنه استمرار الصراعات في جميع ساحات المنطقة بوتيرة متصاعدة الأمر الذي يؤدّي إلى مزيد من الاستنزاف البشري والعمراني.
إلى ذلك، ثمة ظاهرة متنامية تتكشّف عنها الأزمات والصراعات التي تعصف بدول المنطقة. إنها ظاهرة تطوّر الأزمات المتعددة والمتصاعدة من صراعات بين دول وحكومات إلى صراعات بين مكوّنات بنيوية في مجتمعات تلك الدول. بعبارة أخرى، إنّ مخططات التقسيم الجاري تنفيذها، مباشرةً أو مداورةً، في بعض دول المنطقة يرافقها أو ينتج عنها تقسيم موازٍ في مجتمعات هذه الدول، بمعنى تفكيكها إلى كيانات قَبَلية ومذهبية وإثنية منغلقة على نفسها ومتربصة ببعضها بعضاً ومتناحرة. ذلك كله يؤدّي إلى انعدام العيش المشترك بينها وإلى انهيار الوحدة الوطنية داخل الدول التي تتواجد فيها الحكومات والكيانات المتنافسة والمتصارعة، وتلك التي تتعرّض إلى مخططات أجنبية عدائية.
تقسيم دول المنطقة احتمال خطير. أخطر منه احتمال تقسيم مجتمعاتها.