انتهاء الحرب على سورية ووراثة الزعامة الخليجية: سلطنة عُمان أنموذج
معَ تحريرها من الاستعمار البرتغالي على يدِ رجالِ القبائل قبلَ ما يقارب أربعة قرون، أصبحت سلطنة عُمان أحد أقدم الدول العربية التي نالت استقلالها.
وقد لا يختلف اثنان على أن الموقع الجغرافي للسلطنة أشبهَ بالورقةِ الرابحة للعُمانيين لصرفِها في سوقِ «الجيو بوليتيك»، ومع بداية الفوضى التي ضربت المنطقة بمسمى «ربيعِ الدم العربي» شكلت سياسة السلطنة نقطةَ توازنٍ ليس بين مساراتٍ سياسية متضاربة فحسب، لكن بين توازناتٍ إقليمية تحتاج لميزان الذهب، نظراً لدقتها وضمانِ عدمِ اختلالها، لكن النقطة التي تُحسب على هذا الدور وليس لهُ، أنه كان يتم بأسلوب أقرب للصمتِ المطبق بعيداً عن الضوضاء والبهورة الإعلامية، كما اعتدنا أن تفعل الدول التي تبحث عن دورٍ لها في الساحتين الإقليمية والدولية، هذا الصمت الإعلامي ربما قزَّم هذا الدور وجعل كُثراً لا يتعاطونَ معه بالاحترام الذي يستحقه.
يُحسب للسلطنة أنها كانت من أوائل الرافضين للحرب على اليمن لأنها كانت تدرك أن هذه الحرب بالنهاية بمعزلٍ عن اعتبارها تدخلاً سافراً في شؤون الدول المستقلة، لكنها ستؤدي لسقوطِ ضحايا وتدميرٍ، سيستجران الخراب لمنطقة الخليج (الفارسي) بالكامل، لتكون أحد عوامل الإخلال حتى بالتفاهمات الخليجية الخليجية نفسها، وهو فعلياً ما حدث.
جر هذا الموقف العُماني على السلطنة، ويلاتٍ كثيرة إن كان لجهةِ الاصطدام مع آل سعود، وصولاً لحملةِ التشويه والشيطنة التي تعرضت لها، وأوكلها أصحاب المصلحة لصحفيين محسوبين على «البترودولار»، والمضحك مثلاً أن بعض هؤلاء الصحفيين كتبوا ساخرين من قرار عُمان إجراء استفتاءٍ شعبي للخروج من مجلس التعاون بأن «المواطن العماني لا يتمتع بأدنى حرية على المستويين الاقتصادي والسياسي فكيف له أن يقرر؟»، وكأن من كتبوا هذا الكلام يريدون إقناعنا أن ممالك العائلة التي ينحدرون منها هي بحالٍ أفضل، بل لعل مقارنةً بسيطة لما هي الحال بين مشيخاتهم وسلطنة عُمان، تبين أن النتيجة راجحة لمصلحة الثانية من دون منازع.
من جهةٍ ثانية، شكل تمسك القيادة العمانية بالعلاقة مع إيران أحد أسباب تفجير العلاقة بينها وبين مشيخات النفط، أو ما يمكننا تسميته بشكلٍ أدق، السباحة بعكس التيار الخليجي بما يتعلق باستقلالية القرار العُماني.
إصرار القيادة العُمانية على الدفاع عن علاقتها بإيران جعلها تحتل مكانةً مهمة حتى بما يتعلق بالمفاوضات التي كانت تجري بين إيران ودول 5+1، حيث إنها استضافت عدةَ جولات للمفاوضات، بل إن الأمر ذهب أبعد من ذلك عندما كشفت تقارير بريطانية عن استضافة السلطنة لاجتماعاتٍ ضمت وفوداً أمنية إيرانية وسعودية نهاية عام 2014 لبحثِ الأرضية المشتركة لمواجهة تنظيم داعش، وأخفق الاجتماع يومها لتشبث آل سعود بنظرتِهم لما يريدونَ في المنطقة وإصرارهم على ربط المكتسبات السياسية بأسعار النفط التي كانوا ولا يزالون يستخدمونها كسلاحٍ لفرضِ رغباتهم.
إن مجرد قدرة العمانيين على جمع طرفي النقيض هو نقطة تُحسب لهم، لكن إخفاق هذا الاجتماع ولو تعاطى معه الإيرانيون بـ«روح رياضية» لكنه لم يكن كذلك لآل سعود وكان فيما يبدو الشرارة الأهم لكل ما هو قادم.
كذلك الأمر هناك نقطة تبدو مثيرة للاهتمام تحديداً لدى كل المتابعين لمسار الحركات الراديكالية وقادتها أو حتى لأمراء الإرهاب في الدول المشتعلة كسورية والعراق واليمن وهي أن الجنسية العُمانية لم تسجل حضوراً في سجل هذه التنظيمات.
يبدو التساؤل المكرر كيف نجح العمانيون ببناء هذا التكوين الاجتماعي الديني البعيد عن اللـهجة المتطرفة؟ علماً أنهم محوطون بقرن الشيطان الوهابي! هذه النقطة حاول بعض شيوخ الوهابية الاستفادة منها لكن بطريقةٍ معكوسة بحيث إنهم يطرحون تساؤلاتٍ بطريقة خبيثة مفادها: لماذا لا تقترب داعش من سلطنة عمان؟ هم يريدون الضرب من ناحيتين الأولى القول: إن عُمان حليفة إيران ولأن داعش صناعة إيرانية فهي لن تقترب منهم، والثاني الضرب من الناحية المذهبية التي يحاولون من خلالها ضرب النسيج الاجتماعي العُماني والتي لن ندخل بسجالها كي لا نكرر لمروجي الفتنة ما يريدون.
أخيراً ما يخص الموقف العماني من الملف السوري، وهو الموقف الذي كان ولا يزال محل احترامٍ كبير، حيث إن العُمانيين كانوا منذ بداية الحرب يقفون موقفاً متوازناً في زمنٍ تخلى عن سورية حتى الكثير من حاملي الجنسية السورية.
الموقف العماني لا يبدو أنه مقتصراً على الحالة الرسمية أو الشعبية فقط، فحتى من يتابع بعض الصحف العمانية فإنه يقف احتراماً لأقلامٍ رفضت أن تكون خناجرَ تطعن بكلماتها سورية أو السوريين، بل إن الأمر تطور ليصل إلى حد قيام وزير الخارجية يوسف بن علوي بزيارةِ إلى دمشق قبل عامين، يومها هناك من تحدث عن «تمرد» عُماني على الإجماع الخليجي بكسر الحصار المفروض على ما يسمونه «نظام الأسد»، بشكلٍ لم يكن ليرضي آل سعود ولا حتى «أحفادَ شخبوط»، والقضية تخطت لديهم الدعم السياسي المتمثل بالزيارة لتصل إلى أشكالٍ أخرى من الدعم.
وفق هذه المعطيات هل من دور قادم يمكن أن تقوم به السلطنة تحديداً في ظل جنوح المنطقة بالكامل نحو التسليم بفشل «ربيع الدم العربي» كوسيلة لإعادة ترسيم المنطقة؟
دائماً ما نتحدث عن نظرية «ملء الفراغ»، القضية ليست فيزيائية فحسب لكنها تدخل في صميم العمل السياسي، تحديداً أن الفوضى التي دمرت منطقتنا لم تخلِّف فراغاً واحداً، بل فراغاتٍ متعددة أهمها ذاك الحاصل في دور الدولة «الوسط» القادرة على أن تكون منفتحة على جميع التناقضات إن كانت كتياراتٍ سياسية ضمن الدول أو تباعداتٍ إقليمية بين الدول نفسها، دون أن نغفل فرضية مهمة أن المواطن العربي الذي اكتوى بنيران «ربيع الدم العربي» فقد الثقة بكل شيء من بينها المنظمات التي على علاّتها، كان يمكن أن تكونَ مرشحة لتلعبَ دوراً ما من بينها مثلاً جامعة آل ثاني العربية التي أصبحت كالقهاوي المهجورة على طرقات «نيفادا» والتي يرتادها السكارى وقاطعو الطرق.
كذلك الأمر هناك انعدام للثقة بدور القوى التقليدية، ففي السابق كان الحديث مثلاً أن المنطقة تقوم على توازن العلاقة بين السعودية وسورية ومصر، ولا يخفى على أحد أن شكل العلاقة والتنسيق بين هذه الدول، شكّل باستمرار حالة من التوازن جنبنا الكثير من الأزمات، لكن هذا الأمر سقط بعد أن انقلبَ آل سعود على كل شيء، لاهثين وراء فُتات الطموحات القطرية لتنطبق عليهم الحكمة القائلة: «إن مجالسة الصغار تجعلك صغيراً»، والمثير للسخرية أنهم تذرعوا بالعلاقة السورية مع إيران وتجاهلوا أن هذه العلاقة كانت قائمة حتى زمن «الاجتماعات الأخوية» كما كانوا يسمونها بين الراحل «حافظ الأسد» والمخلوع «حسني مبارك» و«الملك عبد الله» عندما كان ولياً للعهد ممثلاً للملك فهد.
فيما يتعلق بمصر، هل من عاقلٍ يمكن له اليوم أن يثق بدورها في ظل وجود قيادة تابعة جملةً وتفصيلاً لآل سعود لدرجةٍ باعت حتى أراضيها ليرضى طويلو العمر؟ مصر عملياً باعت مكانتها كدولةٍ عربية كبرى تلعب دوراً في التوازنات، بالتالي فإن القراءة الموضوعية لحال الدول العربية حالياً إذا ما سلمنا جدلاً بأن سورية بما تمثل هي القطب المنتصر من هذا الصراع الذي يجري معه التفاوض، يقودنا لفرضيتي الجزائر وعُمان، لكن الكفة حُكماً ستكون راجحة لمصلحة العمانيين لأن الجزائر كانت ولا تزال هدفاً يحاولونَ من خلالهِ الولوجَ لأهم مناطق الغاز في شمال إفريقيا، إضافة إلى بعدها عن المحيط الجغرافي الفاعل والعلاقة المشتتة مع المغرب، كلها أسباب لا تلغي مكانةَ بلد المليون شهيد في قلوبنا حُكماً، لكنها تقلّْل من حظوظها برفع راية الدولة القادرة على لعب دور الوسط، فماذا ينتظرنا؟
أثبت تسارع الأحداث في الأسابيع الماضية، وما ثبته الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير في افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين، أننا بلحظةِ ما قبلَ إعلان النصر وما بعد دحر العدوان، هذا يعني أننا سندخل قريباً في مرحلة إعادة تثبيت توازناتٍ وتسويات يدرك الجميع أنها ستكون من منطلق «رابح وخاسر» وليس «لا رابح ولا خاسر»، لكن لكي نصل إلى كل ذلك هناك أثمان سياسية ستكون باهظة للبعض، والأرباح قد تكون ثمينة للبعض الآخر، وعليه فإن الدور الذي قد تلعبه عُمان قد لا يكون من خلال الاستثمار بالمواقف المتوازنة طوال فترة الحرب، لكنه كذلك الأمر يتمدد لما هو بعد الحرب، فهل بدأ العمانيون يجهزون أنفسهم رسمياً لوراثة الدور السعودي؟ لم لا؟ كل الاحتمالات لا تزال مفتوحة وإن كنا لا نؤمن بأن السياسة تحمل مصادفات لكننا نؤمن بأن الصدق بالمواقف له نتيجة وحيدة يجنيها صاحبها عند نهاية الحروب، ولعل عُمان خيرَ مثالٍ على ذلك.
/ فراس عزيز ديب