لماذا انفجرت الحرب الإعلامية السورية الأردنية بهذه القوة "فجأة"؟
عبد الباري عطوان
تعيش العلاقات الأردنية السورية معركة إعلامية شرسة غير مسبوقة منذ تدهور العلاقات بين البلدين بعد أحداث حماة عام 1982، واستقبال الأردن لقادة "الإخوان المسلمين" السوريين الذين تمردوا عسكرياً على الحكومة، وخاضوا معارك دموية مع الجيش ادت إلى مقتل ما يتراوح بين 20 و30 ألف شخص.
الرئيس السوري بشار الأسد اشعل فتيل هذه المعركة عندما قال في حديث لوكالة "سبوتنيك" الروسية إنه يملك "معلومات مؤكدة بأن الأردن يعد العدة لإدخال قوات أردنية إلى جنوب سوريا في إطار ترتيبات أميركية"، وذهب الرئيس السوري إلى ما هو أبعد من ذلك عندما وصف الأردن بأنه "ليس دولة"، مشككاً بقدرته على "اتخاذ قرارات مستقلة إذا أراد الأميركيون استخدام الأردن ضد سوريا".
هذه التصريحات أغضبت الأردن لقوتها وخروجها عن عقد دبلوماسي غير مكتوب بتجنب الصدامات الإعلامية بين البلدين، ولهذا جرى تكليف الدكتور محمد المومني الناطق الرسمي باسم الحكومة (وزير دولة لشؤون الإعلام) بالرد على الاتهامات السورية.
الدكتور المومني خرج عن هذا العقد أو الاتفاق أيضاً، عندما وصف تصريحات الرئيس الأسد بأنها "مرفوضة وادعاءات منسلخة عن الواقع، ومؤسف أن يتحدث الرئيس السوري عن الأردن وهو لا يسيطر على غالبية أراضي بلاده"، وأكد أن الأردن كان من أوائل الدول التي طالبت بحل سياسي للأزمة وأقنعت العالم بهذا الحل ولذلك من غير الممكن أن تدفع باتجاه الحل العسكري، مؤكداً "أن بلاده حريصة على وحدة التراب السوري، ودعم الحل السياسي، ويقف ضد الجماعات الإرهابية التي اجتاحت الأراضي السورية".
هناك أمران أساسيان يكمنان وراء هذه الحرب الإعلامية، وأديا إلى انفجارها والتوتير المفاجيء في العلاقات بين البلدين:
الأول: تأييد الحكومة الأردنية للموقف الأميركي الذي عبر عنه الرئيس دونالد ترامب بإتهام الطائرات السورية بقصف بلدة خان شيخون في محافظة إدلب بأسلحة كيميائية أدت إلى مقتل 86 شخصاً ربعهم تقريباً من الأطفال، وهو الاتهام الذي أعقبه الرئيس ترامب بقصف قاعدة الشعيرات الجوية السورية بـ 59 صاروخ توماهوك.
الثاني: نشر ما سمي وثيقة "عهد حوران" التي كشفت عنها عدة وسائل إعلام سورية معارضة أو مقربة من النظام مثل قناة "أورينت"، وصحيفة "الأخبار" اللبنانية، وتحدثت عن إقامة إقليم، او منطقة حكم ذاتي تضم درعا والسويداء والقنيطرة في جنوب سوريا.
الحكومة السورية تعتقد أن هناك دوراً للأردن في هذه الوثيقة، باعتبار هذه المنطقة محاذية لحدوده الشمالية، وهناك اتفاق أميركي إسرائيلي بمنع القوات السورية والإيرانية ومقاتلي "حزب الله" بالعودة إليها، واتخاذها "قاعدة" لشن عمليات فدائية ضد هضبة الجولان والأراضي الفلسطينية المحتلة المحاذية.
أخطر ما في هذه الوثيقة التي أنجزها 22 معارضاً سورياً من أبناء المنطقة يقيمون في إسطنبول، من بينهم حقوقيون وأكاديميون، أنها تؤسس لوضع مشروع إدارة محلية لا مركزية في محافظة درعا، كخطوة تتناغم مع مشروع الفيدرالية في سوريا، الذي تبناه مشروع الدستور الروسي ووثيقة فيديركا موغيريني، وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، حول الحل في سوريا المستقبل.
وثيقة "العهد" هذه ينظر إليها الكثيرون على أنها "دستور" إقليم حوران، لأنها ستعرض على "مؤتمر تأسيسي" و"مجلس الممثلين الأول" لمناقشتها، من ثم تعديلها إذا تطلب الأمر، وإقرارها في نهاية المطاف، وتنقسم الآراء حولها، فالمؤيدون لها، أو بالأحرى واضعوها، يقولون إنها ليست دستوراً، وإنما وثيقة تضع أرضية للامركزية إدارية، تتعاطى مع خدمات إدارية في المحافظة لوضع حد لحالة الفوضى، أما المعارضون لها فيؤكدون أنها دستور للإقليم تفصل بنودها بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتحدد الملكية الخاصة والعامة، وتنظم الجانب الخدمي والإعلامي والتعليمي والثقافي والديني، أي أنها دستور بتسمية "وثيقة" فقط، وهي مقدمة لتقسيم فيدرالي لسوريا.
هناك شخصيات من أبناء محافظة درعا تبرأت من هذه الوثيقة مثل الدكتور هيثم مناع، والسياسي ورجل الأعمال خالد المحاميد، اللذين أصدرا بياناً يتبرأ من هذه "الوثيقة" وينفي أي علاقة لهما بها، ويؤكد على معارضتهما لأي تقسيم لسوريا، بينما أعلن أحد المؤسسين وهو الباحث نصر فوران الحريري انسحابه من مجموعة المؤسسين التي وضعت مسودتها لأنها "تتضمن في صياغتها مصطلحات قريبة من الحكم الذاتي أو الفيدرالية"، ويعتقد أن "المرحلة لا تحتاج إلى مثل هذه المشاريع وان الجهود يجب أن تنصب على دعم الثورة".
بعد استعادة الجيش السوري لمدينة حلب وبعدها تدمر، باتت الأنظار تتجه حالياً إلى محافظة درعا الخارجة في معظمها عن سلطة النظام، وتتقاسم النفوذ فيها مجموعات مسلحة قبلية محلية، إلى جانب تنظيمي "الدولة الاسلامية" و"هيئة تحرير الشام"، النصرة سابقا، ومن المتوقع أن تشهد هذه المحافظة المحاذية للحدود الشمالية الأردنية تصعيداً عسكرياً في الأيام المقبلة، فأعلن الجيش الإسرائيلي أنه قصف مواقع في الأراضي السورية (الجمعة) رداً على سقوط ثلاث قذائف هاون سقطت في هضبة الجولان المحتلة، وقال بيان رسمي سوري إن طائرة إسرائيلية أطلقت صاروخين باتجاه موقع عسكري سوري في محيط بلدة خان أرنبة في الجانب السوري بعد صد الجيش السوري محاولة تسلل لجماعات أرهابية في المنطقة.
إذا صحت الاتهامات السورية للأردن بالاشتراك في "طبخة" أميركية للتدخل عسكريا في محافظة درعا للسيطرة عليها، وإقامة منطقة حكم ذاتي عازلة تطبيقاً لتعهدات الرئيس ترامب، فإن "التلاسن" الإعلامي السوري الأردني سيتصاعد في الأسابيع، وربما الأشهر المقبلة، أما إذا صدقت الرواية الأردنية التي تنفي مثل هذه الاتهامات جملة وتفصيلا، فإن التهدئة الإعلامية ستكون الأكثر ترجيحا.
كعادتنا دائما، نفضل الانتظار وعدم استباق الأحداث، وإصدار احكام متسرعة، مع وجود قناعة راسخة لدينا بأن احتمالات التصعيد الإسرائيلي الأميركي في الجنوب السوري قوية جدا، وستكون خيارات الأردن صعبة جداً في كل الاحوال.