الصراع على الموصل يستبطن صراعاً على العراق وسورية
د. عصام نعمان
دَعْ خيالك يسرح في لحظة استرخاء. تخيّل أنّ التصريحات والتهديدات التي يتفوّه بها مسؤولون كبار وصغار في العراق والسعودية وتركيا وغيرها من بلاد العرب والعجم لا تتعلّق بتحرير الموصل بل بتحرير فلسطين. تخيّل أنّ الجيوش والطائرات والصواريخ والأساطيل التي تأتمر بأوامر هؤلاء المسؤولين الأفذاذ أخذت تصبّ حممها وصواعقها على «إسرائيل» في ليلة ليلاء حتى إذا انبلج صباح اليوم التالي أصبحت دولة نتنياهو ومستوطنيه أثراً بعد عين.
تزأر في سمائك مقاتلةٌ «إسرائيلية» فتنتشلك من أحلام اليقظة لتتذكّر للتوّ أنّ ما تتفجّر به ألسنة المسؤولين الكبار والصغار، عرباً وأعاجم، لا يتعلّق بتحرير فلسطين بل بما سيكون عليه الوضع بعد تحرير الموصل، نعم بعد تحريرها وكأنّ ذلك أصبح أمراً مقضياً.
أبرز المتخوّفين على مصير الموصل «العثمانية» بعد تحريرها، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. أعلن للملأ انّ أنقرة لن تقبل «تشييع مدينة الموصل السنيّة». وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو أكد من الرياض مؤخراً «ضرورة عدم تخيير أهالي الموصل بين داعش والميليشيات الشيعية». لذا لن ينسحب الجيش التركي من بعشيقة العراقية التي احتلها وأقام فيها معسكراً منذ سنوات ومن سائر أنحاء الشمال العراقي عموماً حيث له وجود في نحو 10 مناطق.
وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لم يكن أقلّ صراحة وحدّة من زميله التركي. حذّر عقب انتهاء اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض مع وزير الخارجية التركي من حصول «كوارث» طائفية في حال مشاركة قوات «الحشد الشيعي» المقرّب من إيران في معارك استعادة مدينة الموصل العراقية ذات الغالبية السنّية من تنظيم «الدولة الإسلامية – داعش».
لكن، أليس «داعش» سنيّاً؟
نعم، إنه كذلك. لكنه طراز من السنّية الدينية او السياسية لا يطابق المعايير السعودية. ماذا عن المعايير التركية؟
إنها، على ما يبدو، أكثر مرونة من نظيرتها السعودية بدليل أنّ أنقرة غضّت النظر عن انتقال آلاف المقاتلين السلفيين المتطرفين من آسيا الوسطى عبر حدودها الطويلة الى داخل كلّ من العراق وسورية.
سؤال آخر يُطرح: ماذا عن شيعية الحشد الشعبي؟
صحيح لأنّ الحشد الشعبي ائتلافٌ يضمّ في غالبيته تنظيمات شيعية وقليلاً من التنظيمات العراقية السنيّة، إلاّ أنّ ما يثير أنقرة والرياض ليس شيعيته بل قربه سياسياً من إيران.
يتحصّل من فهم هذه الواقعة أنّ الدافع الرئيس للصراع على الموصل ليس مذهبياً بقدر ما هو سياسي بالدرجة الأولى. ذلك أنّ أنقرة، كما الرياض. تخشى أن يؤدّي تحرير الموصل بمشاركة قوات «الحشد الشعبي» الى إحداث اختلال في موازين القوى داخل العراق يخدم حلفاء إيران. أكثر من ذلك، تخشى واشنطن، قبل أنقرة والرياض، أن يؤدّي تحرير الموصل بمشاركة واسعة من «الحشد الشعبي» الى إحداث تطورين بالغَيْ الدلالة:
ـ اختلال في موازين القوى داخل العراق يكون على حساب مصالح أميركا وحلفائها.
ـ تعطيل مخطط أميركا الرامي الى دفع مقاتلي «داعش»، بعد تحرير الموصل، باتجاه محافظتيْ الرقة ودير الزور السوريتين بغية تكثيف وجودهم فيهما ما يجعلهما عصيتين على الجيش السوري الساعي الى تحريرهما. أهلُ القرار وحلفاؤهم في دمشق يجزمون بأنّ هناك مخططاً أميركياً يرمي الى تحويل محافظتيْ الرقة ودير الزور الممتدّتين من حدود تركيا في الشمال الى حدود الأردن في الجنوب دويلة – إسفين تفصل سورية عن العراق وبالتالي عن إيران.
هكذا يتّضح أنّ الصراع على الموصل يستبطن في الواقع صراعاً محموماً بين ثلاثة محاور: المحور التركي – السعودي، والمحور الأميركي- الإسرائيلي والمحور السوري الإيراني.
المحور الأميركي يضمّ بطبيعة الحال «إسرائيل». قد ينشأ أحياناً تباين تكتيكي بين واشنطن وتل أبيب، لكن التفاهم الاستراتيجي بينهما قائم وصلب، وغايته في نهاية المطاف إضعاف سورية والعراق تمهيداً لتفكيكهما الى جمهوريات موز هزيلة تقوم على أساس مذهبي أو اثني أو قَبَلي.
المحور السوري الإيراني يضمّ بطبيعة الحال تنظيمات المقاومة العربية الشعبية المناهضة لـِ «اسرائيل» وللتنظيمات الإسلاموية الإرهابية. وهو يحظى بدعم روسيا السياسي والعسكري في بعض القضايا والمواضيع التي تلتقي عليها أطراف المحور وموسكو.
المحور التركي السعودي يحظى بدعمٍ سافر من أميركا، ولا سيما في صراع السعودية مع إيران على مستوى عالم الإسلام، كما يحظى بدعم من أميركا وازن عند حدوث تعارض مصالح، وبالتالي صراع بين تركيا الأطلسية وروسيا.
في مجمل الصراع الراهن، بمختلف أطرافه وساحاته، تبدو الولايات المتحدة محرجة وحائرة. السبب؟ اقتراب ولاية باراك أوباما من نهايتها، وبالتالي نشوء فترة انتقالية يُفضّل خلالها الرئيس الأميركي عدم الإقدام على اتخاذ قرارات من شأنها إحراج مرشحة حزبه الديمقراطي هيلاري كلينتون أو إضعاف حظوظها الانتخابية. ذلك يؤدّي إلى اعتماد واشنطن سياسة احتواء الصراعات الناشطة في المنطقة ومحاولة تجميد وتائرها بضعة أشهر بانتظار تسلّم الرئيسة او الرئيس الأميركي المنتخب سلطاته وتعيين مساعديه وإقرار سياساته في مختلف الميادين.
في المقابل، يسعى المحوران التركي السعودي والسوري الإيراني الى انتهاز فترة تقلّص حيوية أهل القرار في واشنطن من أجل تحقيق مكاسب وازنة او محدودة قد يصعب إنجازها بعد اضطلاع الرئيس او الرئيسة الأميركية الجديدة بسلطاتها كاملة.
الصراع، اذاً، متفاوت الوتيرة والحرارة، لكنه مستمرّ ومرشح للتصعيد.