kayhan.ir

رمز الخبر: 46607
تأريخ النشر : 2016October17 - 18:35

تركيا في الموصل : خطورة الخطاب الطائفي

د. دياري صالح مجيد

النبرة الاخيرة التي استخدمت في خطابات اردوغان الموجهة تحديدا الى العراق , كانت تعبيرا صارخا عن حجم التحول في الذهنية الطائفية لصناعة السياسة الخارجية لدولة اقليمية مهمة مثل تركيا . في هذه النبرة خرجت تركيا عن واحد من اهم المباديء التي حكمت علاقاتها بالاخرين بعد ان تم اسلمة الحكم بطريقة متطرفة . مبدا ” السلام في الداخل , السلام في الخارج ” اعيدت صياغته ليتم تشكليه عبر تصدير ازمات الداخل لخلق الفوضى في الخارج . و هي فوضى تنعكس بالضرورة على المجال الامني الجديد لتركيا , و بالتالي على تشكيل التفاعلات التركية – التركية ذاتها .

يحاول بعض الكتاب الاتراك ايجاد التبريرات لهذه السياسة عبر التاكيد على فكرة كون العراق خاضع تماما للدور الايراني . و ايضا عبر توظيف فكرة كون كل اشكال المقاومة و الرفض للدور التركي في معارك الموصل , انما تمثل موقفا ايرانيا بحتا له علاقة بالصراع الشرس بين القوتين على امتداد الجغرافيا العراقية – السورية . لاجل ذلك وضعت تركيا في اجنداتها حديثا مركزا حول تسويغ تواجدها في بعشيقة اساسه الخشية من ان تحدث تغيرات ديموغرافية في الموصل تقود لاحقا الى تحولها لمدينة شيعية ! .

يفشل مثل هذا التبرير في الاجابة عن تساؤلات تخص فكرة المقاومة في جذرها البعيد اولا , و كذلك في تمرير فكرة التغيير الذي يمكن له ان يصيب البنية السكانية لثاني اكبر مدينة في العراق . فلاجل تطبيق اشكال هذا التغيير الذي يدعيه الخطاب التركي , لا بد من ان تكون هنالك فترة زمنية طويلة و سياسات سكانية بشعة قد لا يمكن الوصول معها الى نتيجة ممكنة , حين يتم التعامل مع مدينة مثل الموصل في بلد عرف جيدا ما الذي تعنيه هذه القضية و مدى خطورتها المستقبلية . الجغرافيا تلعب دورها الحتمي في هذه المعادلات , و تترك اثرها السياسي و الاجتماعي على كل العراق و ليس الموصل تحديدا اذا ما اراد البعض رسميا التفكير بمثل هذه التصورات الاقرب الى الخيال منها الى الواقع .

هنالك في الخطاب التركي المعاصر توجه محدد لقيادة السُنة في العراق . فهنالك من يريد ان تكون الموصل هي الرقعة التي تمهد لانتاج الاقليم السني برعاية تركية مباشرة . و هو امر لم يعد خافيا بالمطلق حيث عبر عنه اردوغان بشكل صريح في مقابلة مع احدى القنوات الخليجية قائلا ” من هم أهل الموصل؟ إنهم السنة العرب، والسنة التركمان، والسنة الأكراد، بالتالي يجب ألا يدخل "الحشد الشعبي” الموصل … أن الحشد الشعبي يجب أن يُمنع من دخول الموصل من السعودية وتركيا …” . تصريح يتم فيه نفي فكرة المكونات و اختزالها بعنوان مذهبي محدد صارخ المعالم , بهدف خلق عراقين متناحرين طائفيا احدهما سني و الاخر شيعي . هنا فقط وفقا لهذه الرؤية التي يطرحها صانعو السياسة التركية سيكون لفكرة التغيير الديموغرافي مخرجاتها و تطبيقاتها القاسية على ارض الاقاليم التي ستتشكل بالدم و ليس عبر الخرائط .

خطورة هذا التوجه و عدم جدوى التبريرات التي قدمت لتفسيره عمليا , دعت المعارضة التركية و القوى المجتمعية الى التحذير من المعاني السيئة لهذا الخطاب . فعلى سبيل المثال اكد حزب الشعب الجمهوري بانه يتفهم مخاوف تركيا في الموصل و يتفق مع اردوغان في بعض التصورات الخاصة بتواجد الجيش التركي في بعشيقة , الا انه يحذر من جعل الطائفية اساسا لتوجيه السياسة التركية في التعاطي مع هذه القضية . هنا اكد كمال كيليتشدار أوغلو ” ان الحكومة التركية مطالبة باستخدام لغة حذرة لا يتم فيها الترويج لسياسة خارجية مذهبية خاصة في اعقاب عملية تحرير الموصل … ان تحرير الموصل سيعني بروز استراتيجيات جديدة حول سوريا و العراق . لذا فان مقابلة اردوغان في الاعلام الخليجي تشير الى خطورة المفردات الطائفية ” .

خطورة هذه التصريحات انها لم تاتي من شخصية عابرة لكاتب او اعلامي مدفوع الاجر لتحقيق غاية محددة , بل اتت من شخص يفترض به قيادة امة كبيرة و مهمة مثل الامة التركية . هنا يتم الحديث عن اثر هذا التحول الممكن عبر الموصل في الداخل التركي ذاته . فالانقسام المجتمعي لا زال يؤثر في مشهد الاستقرار المستقبلي لتركيا . و هو مشهد له امتداداته السكانية الواسعة عبر الجغرافيا التركية . لذا يتوقع ان يترك تحديد تركيا لقائمة اعدائها الجدد في العراق وفقا للقاعدة الطائفية , مساحة تاثير و شحن سلبي في العديد من الاوساط التركية . لاحقا سيقود هذا التصنيف للاعداء الى انتاج تحولات جيوبولتيكية مهمة داخليا في العراق بالطريقة التي قد تفقد معها تركيا الكثير من المبادرات في ميادين الاقتصاد و الطاقة و الاعمال .

بالنهاية ليس مفاجأ ان تكون تركيا مازومة الى كل هذا الحد في ظل استبعادها امريكيا عن معركة الموصل . المفاجئة الحقيقية ستكون في اصرار الاتراك انفسهم على اعادة التذكير بدور اردوغان في شق وحدة الصف التركي عبر هذه التصريحات و العقيدة الطائفية التي باتت تهيمن على ذهنيته في رسم السياسات العليا للبلد . في هذا الصدد يقول الكاتب هاينتس كرامر في كتابه ( تركيا المتغيرة تبحث عن ثوب جديد ) ” حين كان اردوغان رئيسا لبلدية استنطبول في زمن حزب الرفاه السابق , فقد صدر بحقه حكم يقضي بسجنه عشرة اشهر بسبب زرع بذور الكراهية بين صفوف الشعب حيث اقتبس في خطاب القي في احدى المدن التركية ابيات تدلل على عقليته جاء فيها ” ان الجوامع ثكناتنا , و القباب خوذاتنا , و المآذن حرابنا , و جمهور المؤمنين جيشنا ” , وعد ذلك بنظر محكمة امن الدولة في ديار بكر على انه خطاب لاثارة الحقد و الكراهية بين صفوف الشعب ” .

لقد فشلت سياسات تحشيد السنة في معظم التجارب التي خاضتها حكومة حزب العدالة و التنمية . هذا الاستنتاج المهم بات مسيطرا على بعض الرؤى الحيادية للكتاب الاتراك في نقدهم للتبريرات التي تتقدم بها المؤسسة الحاكمة لتمرير السياسات الطائفية التي افقدت تركيا فرصا استثمارية و تنموية كبيرة .هنا يؤكد الكاتب التركي بوراق بيكديل في مقاله المعنون ” اكاذيب رخيصة ” على هذا التوجه بالقول ” ان طموحات اردوغان المذهبية فشلت في سوريا و كذلك في ترتيب الاوضاع في مصر لمصلحة الاخوان المسلمين , كما فشلت في لبنان عبر حركة حماس , و لاجل ذلك فان السياسة السُنية التي تتبعها تركيا ستفشل في العراق ايضا ” .