التحرّك التركي مسقوف... الدور الكردي يحتاج إلى سقف -
ناصر قنديل
- مهما حاول المتحدّثون عن ذكاء تركي وحنكة توظيف التناقضات لدى الرئيس رجب أردوغان، سيبقى التحرك التركي مسقوفاً على المستوى السياسي، بعاملين رئيسيين فمن جهة عامل غياب القدرة على التعايش مع إمساك جزر عسكرية وأمنية في سورية، خشية منح الذريعة لتشريع قيام الميليشيات الكردية بفعل الشيء نفسه، وهو ما لا يستطيع الأتراك منعه إذا قرّروا وقف عمليتهم عند حدود الإمساك ببعض الجغرافيا التركية، ومن جهة مقابلة العجز عن تحويل حملتهم العسكرية نحو أحد اتجاهين، التوسّع للسيطرة على مناطق الأكراد كلّها، أو التقدّم نحو مناطق انتشار الجيش السوري، فالخيار الأول ممنوع بقوة الحضور الأميركي الذي تقف حدود تفهّمه للتحفظات التركية على دور الأكراد، عند دعوتهم للانسحاب إلى شرق الفرات، وممنوع مثله مثل الخيار الثاني، أيّ الشراكة وتقديم التغطية العسكرية لحرب القوى السورية التي تدعمها أنقرة واستعادة معادلة الحرب على الدولة السورية والجيش السوري، بقوة التفاهمات التي تمّت بين أنقرة وكلّ من موسكو وطهران، على قاعدة التسليم بنهاية حرب إسقاط سورية وفشلها، والاتفاق على قاسم مشترك هو منع تفتيت سورية إلى جزر عسكرية تتقاسمها الجماعات المسلحة. وهذا يعني العمل لإسقاط جزيرتي خلافة داعش وإمارة النصرة بالقوة العسكرية، وتحجيم الكانتون الكردي حتى جعل حلم التواصل مستحيلاً، لجلب الأكراد إلى تسوية سياسية لقيام دولة سورية موحّدة تنضمّ المناطق التي يسيطرون عليها إليها، وتشجيع جماعات ترعاها تركيا من المسلحين على مغادرة التموضع مع النصرة والمجيء إلى حيث يمكن لتركيا انتزاع مناطق من سيطرة داعش ومساعدتهم على إمساكها، لضمّها في إطار الدولة السورية الموحّدة.
- يعرف الأتراك أنّ أيّ تلاعب بهذه السقوف يفوق قدرتهم، وأنّ زمن الاندفاع نحو مواصلة الحرب على الدولة السورية يعني نسف كلّ التفاهمات مع روسيا وإيران، وهو ما لم يكن له ضرورة ولا مبرّر لو كان في عقل الأتراك هذا الهوس، لأنه سرعان ما سيعود كلّ شيء إلى ما كان عليه عشية الاتصال الروسي التركي، عدا عن أنّ هذا النوع من الاندفاع بدا مستحيلاً في ظلّ أفضل حالات التعاون التركي الأميركي، وأفضل أوضاع الجماعات المسلحة في شمال سورية، والحال اليوم العكس تماماً في الأمرين، أما أن يندفع الجنون التركي شرق الفرات لإمساك مناطق التواجد الكردية، فذلك سيفقد الأتراك دعم روسيا وأميركا وإيران معاً، ويفقد الأتراك صحة مزاعمهم عن قتال داعش، ويرسم المزيد من الشكوك التي لا يحتاجونها حول ماهية العلاقة التي تربطهم بهذا التنظيم الإرهابي، حتى يتفرّغوا لاستعادة ما أخذه منه الأكراد، ويمرّون بقرب مناطق سيطرته لإلقاء التحية فقط، كما سيكون الحال في الرقة إذا توجه الأتراك إلى تل أبيض وعين العرب الواقعتين تحت سيطرة الميليشيات الكردية، لذلك قدر الأتراك أن يتحققوا من ضمان منع تواصل شريط كردي من عفرين إلى القامشلي، ويكملوا على الشريط الحدودي مهمتهم بقتال داعش، وتسليم المناطق التي يستردّونها من التنظيم للجماعات المسلحة التي تحمل أمامهم أعلام الجيش الحر، بعد جلب المزيد منها من أرياف حلب وإدلب، حيث تقاتل مع جبهة النصرة وتحمل لها الأعلام أيضاً. فهم اليوم في وضع كوضع دراجة لا تستقيم ولا تتوازن إنْ توقفت، وبسبب سرعة الاندفاع هي مضطرة لمواصلة السير إلى الأمام لأنّ ايّ انعطافة تعرّضها للسقوط أيضاً.
- المشكلة التي تمنح الأتراك هامشاً أوسع نسبياً سببها عجز القيادة الكردية عن صياغة سقف لها، قابل للتعايش والتأقلم مع المتغيّرات، بعدما بُنيت منهجية العمل الكردي على فرضيتين سقطتا سريعاً، الأولى استحالة تمكّن تركيا من التموضع على خط التفاهم مع روسيا وإيران، وامتلاك فرصة التحرك لإسقاط مشروع الكانتون الكردي، والثانية استحالة أن يؤدّي التفاهم الروسي الأميركي إلى تعويم صيغة دولة سورية موحّدة، في ظلّ التطمينات التي حصلت عليها القيادة الكردية من الأميركيين، ولأنّ الأميركيين يبيعون ويشترون، وتفاجأوا مثل الأكراد بالتفاهم السريع لأنقرة مع موسكو وطهران، تموضعوا فوراً على خط جديد، هو الخط الذي رسمه التفاهم التركي الروسي الإيراني، بضمّ أولوية وحدة سورية لأولوية محاربة الإرهاب بينما تصرّفت القيادة الكردية على قاعدة وهي أنّ أولوية محاربة الإرهاب وحدها تتيح اقتطاع جزء من الجغرافيا السورية بحجم المشاركة في قتال داعش، لتصير أولوية وحدة سورية مع قتال الإرهاب تعني دعوة الأكراد للتراجع عما يعتبرونه منجزات الكانتون، حتى الآن. وهم بقوة هذا الوهم قطعوا جسور التواصل والتعاون وأحرقوا السفن مع روسيا وأسقطوا الهدنة التي أعلنتها بينهم وبين الجيش السوري وقبلتها سورية، بينما وجدوا أنفسهم اليوم مضطرين للتمسك بحبال الهدنة التي أعلنتها واشنطن بينهم وبين الأتراك ورفضتها أنقرة.
- لا تفيد الأكراد اليوم لعبة التذاكي التي تحكم مواقف قيادتهم، فأمامهم فرصة المراجعة والتراجع، والتسليم بأنهم كانوا ضحية وهْم تصديق الأميركيين وربط مصيرهم بالموقف الأميركي، وبأنهم مستعدّون للتموضع على خط الشراكة في الحرب على الإرهاب مقابل نصيب في صيغة الدولة السورية الموحّدة، تضمنته المشاركة في محادثات جنيف ولاحقاً في حكومة موحّدة وانتخابات تلي النصر على الإرهاب ووضع دستور جديد، سيتاح لهم تضمينه العديد من الميزات الخصوصية بالمكوّن الكردي، تحت سقف وحدة سورية، وهذا يستدعي إعلاناً سياسياً مفصلياً من القيادة الكردية ترافقه دعوة لاستئناف الحوار مع الحكومة السورية، والإعلان عن القبول بعودة الوضع في الحسكة إلى ما كان عليه قبل شهور، كبادرة حسن نية للعودة إلى الحوار، والتمهيد لحجز مقعد في محادثات جنيف.
- كلما تأخرت القيادة الكردية عن مبادرة بهذا الحجم سينجح الأتراك، وهم يواصلون الحرب على داعش واسترداد مناطق جديدة من تحت سيطرة التنظيم، التلفت يميناً ويساراً، وتوجيه ضربة للوجود الكردي المحاذي، وكلها مناطق متداخلة، على الحدود مع تركيا، فيصير ثمن تحرير غرب الرقة من داعش إسقاط عين العرب من يد الأكراد، وتحرير شرق الرقة ثمنه إسقاط تل أبيض من أيديهم.