في النهاية لا يصحّ إلا الصحيح بنت الأرض
حدثان يمكن اعتبارهما مفاجئين إلى حدِّ ما في الأسبوع الفائت كما يمكن اعتبارهما مؤشرين إلى وجهة الأحداث المستقبلية في الإقليم والعالم. ونحن في حمأة صراع على المستقبل الجميع يتساءل ويجتهد ويفسّر كل حدث محاولاً لملمة الأحداث ومعرفة التوجهات.
إلا أن التشظي والتداخل في الأحداث وتسارع هذه الأحداث على الجبهات المختلفة وتباين واضح وخطير بين الفعل والقول جعل من شبه المستحيل علينا جميعاً أن نركن إلى قراءة واضحة حول توجّه الأحداث واحتمالات نهاياتها وشكل مصائرها. إلا أن لهذين الحدثين أهميةً خاصة في محاولة تلمّس هذه الوجهة المستقبلية لأوطاننا وأجيالنا. الحدث الأول هو اعتراف البرلمان الألماني بالمجزرة العثمانية ضد الأرمن والسريان في تركيا عام 1915 . والحدث الثاني هو إدارج الأمم المتحدة التحالف السعودي الذي يشنّ حرباً دموية لا مبرر لها على اليمن الشقيق على اللائحة السوداء لقيامه بقتل الأطفال من جهة وبيان وزارة الخارجية الأميركية أن أنصار الله في اليمن ليست منظمة إرهابية وأن أنصار الله جزء من العملية السياسية وطرف في النزاع وفي تسوية هذا النزاع.
يأتي قرار البرلمان الألماني في مفصل زمني تعاني به أوروبا من انقسام حاد حول مجريات الأمور في الشرق الوسط بين بريطانيا وفرنسا وهولندا من جهة وهي الدول المتورطة بسفك الدم العربي تحت يافطة الربيع العربي وبين بقية أعضاء الإتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وكانت ألمانيا، الصوت المرجّح، هي المتأرجحة بسبب موقفها شبه الإيجابي من أردوغان وبسبب محادثات ميركل مع أردوغان حول اللاجئين وحول الإرهاب والتي أثارت امتعاض من يفهمون حقيقة دور أردوغان الخطير في تمرير الإرهاب وإفتعال أزمة اللاجئين من أجل ابتزاز دول الإتحاد الأوروبيّ. أما وقد ساءت العلاقة اليوم بين أردوغان وألمانيا فإن هذا سيكون ذا أثر بالغ على القرارات الأوروبية المتعلقة بالحروب التي يشنها الغرب بالوكالة ضدّ العرب. لا شكّ أن الأرمن والسريان والآشوريين ليسوا سعداء أن تمضي على المجازر بحقهم مئة عام قبل أن يعترف برلمان أوروبي بهذه المجازر رغم أنها مؤرخة ومثبتة، وقصص الهاربين من الموت إلى سورية وحدها كافية لتأريخ وتثبيت هذه الجريمة البشعة. ولكن توقيت الإعتراف هام أيضاً، فهو مؤشر على أن حتى ألمانيا، والتي كانت إلى أمدٍ قريب أكثر من يُحابي أردوغان على حساب الحقيقة والتاريخ ورأي الحلفاء، قد ضاقت ذرعاً بتصرفات وحماقة الحاكم الأوحد في أنقرة وبدأت تستقرأ بجديّة خطر سياساته على المنطقة والمستقبل. وهنا نقول أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي على الإطلاق، دون وهم بأن دافع مثل هذه القرارات لم يكن يوماً إنسانياً وإلا لكانت المجازر التي تُرتكب اليوم بحق الشعب السوري من حلب إلى دير الزور وكفريا والزارة وجبلة وطرطوس جديرة جداً بإدانة دولية شاملة. ولهذا نحن نقرأ هذا الحدث سياسيّاً وليس إنسانيّاً.
الحدث الثاني وهو إدراج الأمم المتحدة التحالف السعودي على اللائحة السوداء لقتل الأطفال اليمنيين يثير أيضاً الإستغراب في توقيته. فرغم ترحيبنا الإنساني المخلص بهذا القرار فنحن نتساءل لماذا لم ترَ الأمم المتحدة التحالف السعودي يقتل أول عشرة أطفال أو أول مئة طفل، بل انتظرت إلى أن قتل هذا التحالف الدموي حسب تقرير الأمم المتحدة أكثر من ستمئة طفل؟ وهل ستمئة طفل رقم رياضي نذكره ونحصيه ومن ثم ننساه؟ أم أن ستمئة طفل- وقد يكون العدد أكثر من ذلك بكثير- يعني ستمئة حياة إنسانية لا يحقّ لأحد في الكون زهقها، ويعني أن ستمئة أسرة أصيبت في كبدها، ويعني أن ستمئة أم فقدت فلذة كبدها وعانت ما عانت من ألم وحسرة لا يعرفها إلا الأمهات الثكالى. ثمّ إن التحالف السعودي قد قصف درّة المواقع الأثرية اليمنية ودمّر حضارة هي أصل الحضارة العربية كما دمّر البنى التحتيّة والمشافي والطرق وشبكات المياه لشعب يعاني أصلاً من فقر في الموارد والبنى التحتية. هل احتاجت واشنطن إلى ما يقرب من عام كي تشعر بالرعب أن 60% من الضحايا في اليمن هم من الأطفال وأن التحالف السعودي قد قصف المرافق الطبية والمدارس والجسور والطرق؟ وألم ترى الولايات المتحدة الإرهاب السعودي وهو يقتل مئات الألوف من المدنيين العرب في العراق وسورية وليبيا واليمن ولبنان وحتى في أوروبا والولايات المتحدة نفسها في 9/11؟
مع أن هذه القرارات هامة للشعب اليمني وهامة لحسم وجهة الصراع إلا أنه من الواضح أنها قرارات سياسية، وخاصة أنها أتت بعد توصيف أوباما لدول الخليج الفارسي وقادته في لقائه في الأتلانتك، هذا التوصيف الذي أظهر تباعداً واضحاً في الرؤى والتوجّه والأسلوب وبشّر بالمزيد من الفرقة بين الولايات المتحدة والسعودية على وجه الخصوص. ثم تبع ذلك قرار الكونغرس الأميركي بالسماح لعائلات ضحايا 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة أن يرفعوا قضايا للتعويض لهم ومن المؤكد أن هذه القضايا سترفع ضدّ السعودية لأن التقرير ذي الخمسة وعشرين صفحة يُتوقع أن يشير بوضوح إلى دور آل سعود في أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة.
الإستنتاج هو أنه رغم الألم والمجازر والقتل والإرهاب الذي تسبب به أردوغان وآل سعود في سورية والعراق وليبيا واليمن فإن الوقت يقترب من محاسبة هؤلاء على جرائمهم ومن الاعتراف الدوليّ والواضح بدورهم في كلّ ما تعرضت له الشعوب العربية من قتل وتهجير ودمار. قد لا يحدث هذا غداً أو بعد غد ولكن لا شكّ أننا نسير في ذلك الاتجاه وأنّ الصمود لبلوغ ذلك الهدف والعمل من أجل تحقيقه هما شرطان أساسيان للوصول إليه. في واقع متشظ ومتشابك ومعقّد من المهم التقاط الإشارات للتأكد من البوصلة والإطمئنان مرة أخرى أنه في النهاية لا يصحّ إلا الصحيح.