حقائق الحرب فوق الأرض وتحتها...
عصام نعمان
باشرت "إسرائيل”، على ما يبدو، المرحلة التمهيدية لهجوم بري على قطاع غزة. يقول بعض خبرائها إن المطلوب ليس احتلال القطاع بل أجزاء منه لتمكين الجيش الإسرائيلي من تحقيق أغراض عملانية، أبرزها قطع خطوط الإمداد اللوجستي، تعطيل حركة فصائل المقاومة فوق الأرض، وتعزيز القدرة على اصطياد قيادات المقاومة وكوادرها الفاعلة.
للهجوم البري غرض إضافي. فهو جزء من الحرب النفسية التي تشنها "إسرائيل” على المقاومة أملاً في توليد حبوط عام يدفع قيادتها إلى القبول بوقف النار وترتيب تهدئة تناسب العدو.
لتسويق "منافع” الهجوم البري بين الإسرائيليين، ولتخويف الفلسطينيين قياديينَ ومدنيين، جرى تسريب خرائط إلى وسائل الإعلام تشير إلى مواقع الهجوم في القطاع والمساحات الجغرافية التي يمكن أن يتحصن فيها الجيش الإسرائيلي. أبرز المواقع ثلاثة: شريط على طول "حدود” القطاع مع الأرض المحتلة من الشمال إلى الجنوب بعرض يتراوح بين 8 إلى 12 كيلومتراً. جيب شمالي مدينتي خان يونس ورفح يفصلهما عن وسط القطاع وشماله. جيب آخر في الشمال يفصله عن مدينة غزة ووسط القطاع. إلى ذلك، يتصل الشريط الشرقي المراد إنشاؤه مع الجيب الشمالي ومنه يمتد غرباً إلى البحر، وكذلك يتصل الشريط الشرقي مع الجيب الجنوبي ومنه يمتد غرباً إلى البحر.
يعتقد بعض الخبراء الإستراتيجيين أنه بإمكان "إسرائيل” تحمّل تكلفة تنفيذ هذا الهجوم، وأن مردوده العملاني سيكون وفيراً إذ يقسم القطاع إلى ثلاثة أجزاء، ويمنع التواصل في ما بينها، ويعرقل قيام نشطاء المقاومة باستخدام منصات لإطلاق الصواريخ في مناطق من القطاع قد لا تقل مساحتها عن ثلث مساحته الإجمالية، ويحشر المقاتلين وأسلحتهم في مناطق كثيفة السكان الأمر الذي يحدّ من حرية الحركة والمناورة.
من الملاحظ أن كل هذه الترتيبات وكذلك النتائج المرتجاة منها قائمة أو ستقوم على الأرض حيث تتمتع "إسرائيل”، براً وجواً، بتفوق واضح على فصائل المقاومة. لكن ماذا عن الواقع القتالي تحت الأرض؟
ليس سراً أن قطاع غزة بات برمته شبكة من الأنفاق تحتضن قيادات ومقاتلين ومخازن صواريخ وأسلحة وعتاداً ومؤناً. ذلك كله يمكّن المقاومة من شن حرب طويلة من تحت الأرض على العدو الجاثم فوقها، سواء في منطقة الشريط الحدودي الشرقي وفي الجيبين الشمالي والجنوبي المشار إليها آنفاً أو حتى في ما يتعدى هذه المناطق وصولاً إلى المستوطنات الكائنة في غلاف القطاع والمستوطنات والمرافق الكائنة في العمق.
ماذا ترتجي "إسرائيل”، إذاً، من الشريط الشرقي ومناطـق ومربعـات الجيبين الشمـالي والجنوبي؟
يرى الخبير الإستراتيجي العميد أمين حطيط أن من شأن هذه الجيوب والمربعات إيذاء المقاومة بإرباك تواصلها ومواصلاتها مع مختلف وحداتها ما يحدّ من فعاليتها. لكنه يقدّر أن المقاومة احتاطت لهذا التحدي الذي ينطوي على جملة ثغرات يمكن استثمارها بفعالية لاستنزاف العدو من حيث:
- أن تنفيذ خطة الشريط والجيبين والمربعات يقرّب وحدات الجيش الإسرائيلي، المشاة كما المدرعات، من مرمى نيران المقاومة الأمر الذي يلقي على الجيش عبئاً ثقيلاً في تأمين حمايتها.
- يتيح انتشار جيش العدو للمقاومة، ولا سيما لإستشهادييها، فرصاً كثيرة لاصطياد جنود العدو كما مدرعاته بصواريخ "كورنيت” الفتاكة.
- ينجم عن العاملين سالفي الذكر حربُ استنزاف طويلة ومكلفة للجيش الإسرائيلي.
للتدليل على أرجحية هذه التوقعات يذّكر العميد حطيط بحرب "إسرائيل” على حزب الله عام 2006، إذ حاول الجيش الإسرائيلي فصل منطقة جنوب لبنان الشرقية عن منطقة جنوبه الغربية بشن هجوم بري مدرع معزز بوحدات من المظليين اخترق الحدود في منطقة مرجعيون واتجه إلى وادي الحجير في محاولة للوصول إلى أعلى مجرى نهر الليطاني، فكان أن فتك مقاتلو المقاومة بجنوده ومظلييه ومدرعاته على طول خط الهجوم. في هذه الهجمة الفاشلة خسر العدو نحو ثلاثين دبابة، شكّلت الدافع الأساس إلى طلبه من الولايات المتحدة التعجيل في اتخاذ قرار في مجلس الأمن بوقف العمليات الحربية.
يتحصّل من هذه الحقائق أن أي هجوم بري على قطاع غزة لن يمكّن "إسرائيل” من حسم الصراع لمصلحتها وفرض إرادتها على فصائل المقاومة. فالحرب من تحت الأرض تطورٌ جديد وخطير من شأنه إنتاج حقائق جديدة فوقها. صحيح أن الهجوم البري يلحق أضراراً بشرية ومادية واسعة بالمقاومة الفلسطينية، لكنه لن يؤدي إلى قصم ظهرها. فهي، على ما يبدو، احتاطت لهذا الاحتمال ووضعت في حسبانها أنها قد تجد نفسها ميدانياً وحيدةً في مواجهة العدو ما حملها على إيلاء مسائل التنظيم والتجهيز والتسليح والتذخير والصمود اهتماماً كبيراً تجلّت نتائجه بشكلٍ ساطع في طرائق الرد الباهر على العدوان منذ يومه الأول.
غير أن صمود المقاومة في غزة وقدرتها الثابتة على الرد بفعالية على العدوان يستوجبان مع ذلك التحوّط لكل الاحتمالات غير الإيجابية. في هذا المجال، يقتضي إعادة تذكير أهل السلطة الفلسطينية في رام الله بأن عدم قيامهم عسكرياً بنصرة إخوتهم في غزة، اختياراً أو اضطراراً، لا يعفيهم من واجب المبادرة إلى نصرتهم سياسياً، وهو قرار في مقدورهم اتخاذه. لماذا لا يقوم محمود عباس، محاطاً بأركان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بالإعلان من فوق منبر المسجد الاقصى بأنه سيبادر إلى إلغاء اتفاق التنسيق الأمني في الضفة الغربية المعقود مع "إسرائيل” فور مباشرتها هجوماً برياً ضد قطاع غزة؟
نتنياهو وأركان قيادته السياسية والعسكرية سيدرك بالتأكيد النتائج والتداعيات الخطيرة التي يستولدها هذا القرار الإستراتيجي الخطير، وقد يحمله على التراجع عن مباشرة الهجوم البري.
أجل، يدرك نتنياهو النتائج والتداعيات، وأولها وأخطرها وأفعلهـا أن إلغاء الاتفاق الأمني يحرر شعب فلسطين ومقاتليه في الضفة من قيودٍ تفرضها عليهم "قوات الأمن الوطني” للسلطة الفلسطينية، فتنفجر للتوّ الانتفاضة الثالثة.
انتفاضة يصعب على "إسرائيل” خلالها وبعدها أن تقاتل على جبهتين في آن...