المقاربة الممنوعة في أبعادٍ ثلاث
حسن شقير
عذراً فلسطين ، وعلى الرغم من تلك الملحمة التي تجسدها المقاومة اليوم على أرضك ، إلاّ أنني أجد لزاماً علي أن أستكمل ما بدأت به من البحث في التداعيات الإستراتيجية لتطورات المشهد العراقي ، وانعكاساته الأكيدة ، إن سلباً أو إيجاباً ، على قضيتك الأم والأساس .
فغزوة داعش الأخيرة للعراق ، ليست مجرّد تمدد إرهابي في بقعة جغرافية معينة ، وليس إعلانها لدولة الخلافة حدثا،يثير السخرية ،كما راق للبعض أن يصوره ، أو أنه – أي هذا الإعلان – مدعاة ٌ لعدم الإكتراث ، وأنه " لا يعني شيئاً " على حد ما وصفته زوراً المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية ، في تعليقها على ذاك الإعلان …
إنطلاقاً من ذلك ، لا يمكن اعتبار هذه الغزوة وما نتج عنها ، بأنها مجرّد إرهاب تمدد في العراق ، كما هو عليه الحال في سوريا ، وأن ما يجري اليوم فيه هو إسقاط جديد لما جرى عيه الحال في سوريا .. فالمقاربة هنا ، لا مكان لها بين مقدمات مشروع عُمل عليها لمدة تزيد عن ثلاث سنوات في سوريا ، وبين مشروعٍ متكامل بانت كل أهدافه في العراق .. فمع كل ذاك الفشل في الميدان السوري ، والذي تمثل بعدم السماح لتلك المقدمات أن تتحول إلى ما كانت تصبو إليه من تحولّها إلى مشروع ٍ متكامل ونهائي يكون النموذج المحتذى في المنطقة بأسرها …كل ذلك الأمر ، جعل من أرباب هذه المقدمات ، وتحديداً أمريكا والكيان الصهيوني ، بأن جعلوا من العراق تلك الأرض الخصبة في استيلاد ذاك المشروع – الممنوع قسراً من ولادته في سوريا …
إذا بعد التطورات العراقية ، أصبح جلياً أمام الجميع ، أن كل ما جرى من أحداث في سوريا ، وعلى امتداد كل تلك الفترة الزمنية ، كان هدفه المركزي الوصول إلى ذاك المشروع الذي استولدته داعش في العراق ، برعاية أمريكوصهيونية فائقة الإهتمام !
من هنا ، على محور الممانعة األا يقع في فخ المقاربة مرة ثانية ، ما بين المقدمات والمشروع ، وذلك لإن المقاربة اليوم تفترق في أبعاد ثلاث ، هي :
أولا ً : بًُعد التهديد والفرصة
بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الحرب على سوريا ، وبعد أن بقي المشروع الذي رُسم لها وللمنطقة برمتها من خلفها ، في إطار المقدمات ، دون أن تتجسد مشروعاً متكاملا ً فيها ، وذلك بفعل الصمود الأسطوري لسوريا – الدولة ، ولباقي أطر الممانعة فيها… وبعد ذاك الإنسداد لتنفيذ المشروع فيها ، توصلت دول تحالف العدوان على سوريا إلى قناعة مفادها ، بأن ذلك الفشل قد ارتد سلباً عليهم ، لأن التهديد الذي أريد لها ولباقي أطراف الممانعة ، قد حوله هؤلاء إلى فرصة حقيقية ، على الرغم من كل الجراح والإستنزاف الذي أصابهم … وقد كانت هذه الفرصة على كافة الأصعدة العسكرية والسياسية والمجتمعية وحتى الثقافية والدينية ..
السؤال ، هل العراق اليوم ، بغزوة داعش الأخيرة ، وإعلانها الخلافة ، يفترض لسيناريو التهديد والفرصة أن يتكرر على أرضه ؟ برأيي ، أن الإجابة بالتأكيد هي النفي ، فمن ناحية ، كانت الحرب في سوريا وما زالت على مقدمات مشروع ، أما من ناحية ثانية فالحرب في العراق هي مع المشروع بحد ذاته ، وبالتالي فإن العمل بنظرية تحويل التهديد إلى فرصة في العراق ، ليست في محلّها ، لا بل أن الناتج الذي حصّلته أطراف الممانعة من الحرب السورية معرّضاً للإستنزاف مجدداً ، وذلك لأن تكرار السيناريو السوري في المشهد العراقي الجديد ، سيكون صرفاً لتلك النواتج في غير موضعها الحقيقي ، لا بل أنها قد تُدخل هذه الأخيرة في مرحلة من الإستنزاف العقيم هذه المرة .
ثانياً : بُعد الزمن
في كل تلك الفترة السابقة التي عصفت بالحرب على سوريا – الدولة ، كانت سوريا ومعها القوى المساندة ، تحارب لأجل قصقة أجنحة ذاك المشروع في بعده الجغرافي والديموغرافي والمجتمعي وصولا ً إلى الثقافي والديني أيضاً … ولقد اعتقد البعض – كل تلك الفترة – أن هذا الفعل في بتر أجنحة ذاك المشروع ، سيكون كافياً لدى رؤوس تحالف العدوان على سوريا بالتخلي عن حلمهم في إيصال المقدمات إلى خواتيمها في الجغرافيا السورية ، أو في غيرها … هذا من ناحية ، ومن جهة أخرى وفي نفس تلك الفترة لم تكن التنظيمات الإرهابية على مختلف تلاوينها قد اتحدت ، أو قد تخلت عن ضرب بعضها البعض بغية السيطرة والتحكم .. وهنا أيضاً راهن البعض خطأً ، على أن الإرهاب سيأكل بعضه البعض على الأرض وبالتالي ، سيدفع بأحواض الإرهاب التي ترفد سوريا به ، وذلك من بواباتها الحدودية المباشرة منها والخلفية ، بأن تعمل والحال هكذا على تجفيفها ، وصولا ً الكف عن المراهنة السياسية عليها …
أما اليوم ، ومع إستيلادالمشروع الهدام في العراق بدلا ً من سوريا ، انجلت الصورة أكثر لدى محور الممانعة ، فبانت معالم المشروع – وبشكل مكشوف – وكذا خواتيمه ومبتغاه ، وقد ظهر ذلك من خلال عدة شواهد حية ظهرت في ميادين الصراع سواء في سوريا أو حتى في العراق ، وربما لاحقاً في أي بلدٍ أخر يستهدفه ذاك المشروع التفتيتي ، ومنها :
- إلتهام داعش وبشكل سريع لمختلف الجماعات الإرهابية الأخرى التي كانت تتقاتل معها .. وقد ظهر الأمر وكأن المسألة كانت مسألة توقيت لا أكثر !!
- سرعة داعش بإعلانها " الخلافة " ، ومن ضمن أهدافها الكبرى ، بأنها ستعمل لتفريخ الداعشيات في كل منطقة أو بلد ٍ أو حتى في حي من تلك البلدان التي هي منظورة من قبل العين الصهيونية والأمريكية ، وتحديداً في الأطر الثلاث للبازل الذي تحدثنا عنه سابقاً !!
- نية داعش ، والتي تُكتشف تباعاً في عدة دول ، بتهيئة الأرضية اللوجستية ، في أكثر من بلد ضمن تلك العين الصهيونية ، وتحضيرها لخلايا نائمة تنتظر ساعة الصفر لإستيقاظها ، وذلك يبدو أنه يتناغم بقوة مع ، كررناه في أكثر من مرّة ، حول نية الصهاينة ، بإنشاء مليشيات وجهتها وهدفها الإصطدام مع المقاومة ، ومع كل القوى الحليفة لها ، وذلك ضمن استراتيجية " قتل العدو لنفسه بيده ، أو بيد بني جلدته " !
انطلاقا من كل ذلك ، على محور الممانعة أن يكون مدركاً ، أن السرعة في الزمن في مواجهة المشروع – الأساس الحالي ، هي وحدها الكفيلة بوأده ، ومنع تفريخه في المناطق والبلدان المنظورة
ثالثاً : بُعد الحدث
على امتداد سنوات الأزمة السورية ، ولغاية اليوم ، لا تزال مجاميع الإرهاب فيها مشتتة في أكثر من مكان على امتداد الجغرافيا السورية ، حيث كانت هذه المجاميع تفرض سطوتها وسلطتها وقوانينها على أرض متحرّكة وليست ثابتة ، مما أفقدها بريقها الشعبي ، منذ الأيام الأولى ، وذلك بفعل الجرائم التي كانت ترتكبها ، أينما تتحرك في تلك الجغرافيا ، وبفعل وعي الشعب السوري لأهدافها المرحلية التي كانت سرعان ما تتجسد ، نهبا وسلبا وعادات غريبة على المجتمع السوري … حيث جعل من هذا أيضا ً عاملا ً مساعداً إضافياً في منع مقدمات المشروع من وصولها إلى خواتيمها المرتجاة ..
أما في العراق ، فلم تكد تمضي أيامٌ قلائل على تلك الغزوة ، مع ما سبقها ورافقها وتلاها من خيانات ومؤمرات بانت بسرعة تفاصيلها ومبتغاها ، ومن أكثر من طرف على الساحة العراقية ، التي هُيئت تماماً لإستيلاد المشروع على الأرض العراقية .. فلم تكد أقدام الدواعش تطأ أرض العراق ، حتى أعلنت الخلافة ، وطُلبت البيعة ، وبدأت داعش تسن القوانين والأحكام في مناطق نفوذها .. فضلا ً عن محاولتها كسب ود بعض الفئات الشعبية من خلال وجه جديد تحاول تقديمه لها بعيد إعلان " الخلافة " .. وهذه خطوات لا يمكن التقليل من شأنها ، على الرغم من الوعي الكبير لدى أطياف الشعب العراقي كافة ، إلا ّ أن المؤامرة والتي ترتدي اليوم زياً دينياً ، لا يمكن الإستهانة بخطرها ! وخصوصاً أن داعش ترفع لواء " رفع الغبن والضيم والظلم " عن فئات محددة من الشرائح داخل العراق ، و خارجه .. وهو ما تعاونها على ذلك بعض الأصوات التي لها بعض التأثير عند الناس ، من هنا وهناك ، وفي مختلف البلدان المنظورة صهيونياً !
خلاصة القول ، وبالعودة إلى فلسطين وما يجري فيها وحولها ، فلربما يكون محور الممانعة ، قد اهتدى أخيراً إلى أن ترياق الأمة وخلاصها من أدرانها وأورامها التي ألصقت بها ، والمتمثل في إهتزاز الأمن لدى باعثها ، ومحركها ومفعّلها في جسدها ، والذي بيده كل ما تعاني منه المنطقة … . واليوم نطالب هذا المحور بأن لا تكون أليات وأساليب وتكتيكات محاربة مقدمات المشروع في سوريا ، هي ذاتها أليات وأساليب وتكتيكات مواجهة المشروع في العراق ، وخصوصاً لناحية السرعة في الحسم .. فقد يفوت الأوان لا سمح الله