kayhan.ir

رمز الخبر: 3564
تأريخ النشر : 2014July11 - 21:39

مائة عام مفقودة

د. يحيى محمد ركاج

شكل العام 1914 بداية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية التي اعتبرها الغرب الإمبريالي العدو الرئيس له، كما شهد العام نفسه بدايات التحضير الفعلي لاتفاقية سايكس – بيكو بمباركة من روسيا القيصرية التي فضحت هذا الاتفاق بعد الثورة البلشفية وتشكيل الاتحاد السوفيتي، لكن العرب كانوا على حالة من البساطة السياسية والجهل بالتحالفات الدولية الأمر الذي جعل من الإفصاح السوفيتي عن بنود هذه الاتفاقية يذهب في مهب الريح، فكانت موقعة ميسلون التاريخية وأعقبها مؤتمر سان ريمو ليعطي خارطة جديدة للمنطقة العربية تحت النفوذ الاستعماري، نجم عنها آنذاك سلخ كيليكية ومنحها إلى تركيا، ثم أعقبها فيما بعد سلخ لواء اسكندرون واحتلال فلسطين وغيرها.

وقد انبرت الجماهير العربية بقيادة مثقفيها لنيل الاستقلال وإعادة أمجاد الأمة التي تمزقت على أيدي تحالف بريطانيا وفرنسا ووعودهم الزائفة للعرب بمساعدتهم لنيل حريتهم من العثمانيين، فكان لهم ما أرادوا على فترات وحقب زمنية متعاقبة، ليتحول نضال المثقفين إلى إعادة أمجاد الأمة الموحدة كما في السابق ولكن على أوتار عزف جديد، وسيمفونية مجزأة أرست قواعد المجتمع الدولي تجزئتها، وكرست عصبة الأمم تباعدها وعملت هذه العصبة على اغتيال قواسمها المشتركة بالأرض واللغة والتاريخ، وأفردت قواسم جديدة تقوم على تكامل المصالح المرتبطة بالغرب فأضحى اتفاق سايكس – بيكو عنوان ثابت للعديد من الأنظمة والشعوب العربية.

لقد صاغت هذه المرحلة الحاسمة في تاريخ أمتنا العربية مفاهيم جديدة للثقافة والمثقفين، تغنى بها البعض باعتباره جسد في تلك الحقبة رمزية النضال والوطنية، وفضل البعض العمل بهدوء بعيد عن الصخب والأضواء لتحقيق أهدافه العامة والخاصة، ولم يظهر البعض الأخر للواجهة رغم الدور الكبير الذي قام به في تحديد الهوية الوطنية للدولة، فكانت الحصيلة أمة ممزقة بين براثن التبعية والانحطاط، شعارها الرئيس في الفترة الأولى القضاء على اتفاقية سايكس-بيكو، ثم ما لبثت أن أصبحت هذه الإتفاقية قاعدة رئيسة تم العمل إنطلاقاً من شرعيتها عند البعض لمواجهة ما نجم عنها من مؤتمر سان ريمو إلى النكبة الفلسطينية ثم النكسة ثم حروب الخليج الفارسي وسقوط بغداد وغيرها، ودون الإكتراث لما نجم عنها من آثار على الصعد كافة من ديموغرافية وإجتماعية واقتصادية و....

وإذا نظرنا إلى الدول العربية مجتمعة بما حققته نخبها في تلك الفترة من إنجازات فإننا لن نجد من هذه الدول من يحق أن نقر به سوى مصر في زمن عبد الناصر، والجزائر في مواجهة انحطاط الفكر الديني، وسورية التي لا تزال في مواجهة مفتوحة مع الغرب المستعمر وأطماعهم القذرة. أما إن قمنا باستعراض بسيط للأحداث للوهلة الأولى فإن ذلك يجعلني أعود بذاكرتي للوراء عندما كنت طالباً في المراحل الدراسية الأولى والمتوسطة في سورية، حيث كان هناك سؤال لم أعرف إجابته حتى عصفت هذه الأحداث بأمتنا، وكان يقوم هذا السؤال على محور واحد وهو: هل كان مثقفونا في تلك الحقبة وهم النخب التي سطرت كتب الأدب ملامحهم البطولية على درجة جيدة من الوعي السياسي الذي يساعد للنهوض بأعباء الأمة ومتطلباته الملحة آنذاك، أم أن البلادة السياسية هي شعار تلك الفترة التي جابهوا فيها خريطة الأمر الواقع سايكس- بيكو. إن أحداث الربيع الدجال التي عصفت بأمتنا العربية ومنطقة شرق المتوسط، انطلاقاً من الحرب الأهلية في لبنان وصولاً إلى الصومال الفاشلة والسودان المهترئة، والعراق المبعثر في الهوية، واليمن قيد التفكيك، تشير إلى أن نخب المجتمع في حقب النضال ضد سايكس بيكو وما تلاها من أحداث جلل، ينطبق عليها لقب مثقفي الذل، باعتبار الذل –وفق مفهوم الدكتور المنجرة- شر قديم يعود ليبسط هيمنته على العالم، الأمر الذي يدعمه العدد القليل للعلماء العرب مقارنة بالعلماء المسلمين من غير العرب بين النخب التي ساهمت في بناء الحضارة التي نتغنى بها. لقد أثبتت أحداث الربيع الدجال التي عصفت بعذرية منطقتنا الزائفة أن سايكس-بيكو لم تكن سوى مرحلة انتقالية في استعباد الشعوب التي يقودها مثقفون هدفهم الوحيد هو عدم تجاهل العالم لترهاتهم، متناسين ما عليهم القيام به لاحقاً، ويعتبرون سقطات الماضي دعائم للانطلاق نحو الأفق الجديد. فاتفاقية سايكس-بيكو التي قامت على أنقاض حرب عالمية توحدت فيها طغم الشر تحت ذريعة مواجهة الرجل المريض –الامبراطورية العثمانية-، ورافقها تشرذم وجود الأمة وهويتها، تُعقَدُ الآن بمسمى جديد وبآلية جديدة تحت ذريعة أخرى مشابهة لمواجهة الرجل المريض، والمتمثل هنا بالإرهاب الأبله والدولة الصماء(داع ش).

فهل من مؤتمر سان ريمو جديد في الأفق ينتظر نتيجة معركة ميسلون جديدة والتي لم تتجسد إلى الآن بمضمونها السياسي وبأجندتها المستندة على الميكافيلية الكردية لترسخ مفهوم مائة عام مفقودة من ذاكرة الأمة وكرامة الشعوب،ولينعشها سلخ أراض جديدة من العراق وتقسيم جديد لليمن والسودان والصومال وباقي الدول العربية. أم أن الوصف الأكثر أهمية لهؤلاء هو انتظار مائة عام جديدة من البلادة السياسية لمثقفين همهم الوحيد الظهور الإعلامي كوسيلة رفاهية في زمن الانحطاط الثقافي للمفكرين العرب.